تابعنا
نحن هنا في الحالة الفلسطينية، في حالة فضائحية دولية من ارتهان العدالة المطلق للسياسة من دون أي ضوابط أو مراعاة للأثر الذي يتركه هذا النوع من الارتهان واستنسابية المعايير على أزمات أخرى في العالم ومدى الثقة العالمية بالقانون الدولي.

"كنت وزيرةً للعدل، أنا محامية... وأنا ضد القانون، القانون الدولي تحديداً، والقانون عموماً"، هذه العبارة للوزيرة الإسرائيلية السابقة، تسيبي ليفني، في عام 2008، وكانت تعليقاً على مطلب فلسطيني بالإشارة إلى القانون الدولي كمرجعية في نصوص اتفاقيات ما كان يجب أن يكون وضعاً نهائياً لحل الدولتين.

قد يشرح هذا الاقتباس القصير علاقة إسرائيل بالقانون الدولي، فهو مطابق تماماً لنسق طويل من انتهاك هذا القانون، بدءاً من إعلان تأسيس الدولة وحتى حرب غزة اليوم، مروراً بمحطات مختلفة ارتكبت فيها إسرائيل مخالفات جسيمة للقانون الإنساني الدولي في النزاعات المسلحة، وللقانون الدولي وقرارات مختلفة للأمم المتحدة حول الاستيطان والاحتلال والحصار والاعتقال القسري والتعذيب وضروب المعاملة القاسية.

قد يخضع القانون الدولي لتفسيرات مختلفة، وقد يستخدم أحياناً لتبرير أشكال مختلفة من الظلم، وقد يشكل عقبة في وجه الحلول، هذا كله صحيح، لكننا هنا في سياق الحرب الإسرائيلية على الفلسطينيين أمام ثوابت قطعية في القانون الدولي، وهي أن معاقبة السكان المدنيين بقطع إمدادات المياه والغذاء والكهرباء والوقود واستخدام التجويع وسيلة حرب هي جرائم دولية لا جدال حولها في فقه أو نصوص القانون الدولي. وأن القانون الدولي يحظر احتلال أراضي غيره وضمّها بالقوة، ويعترف بحق الشعوب التي تعيش تحت الاحتلال الأجنبي بتقرير مصيرها، ويمنع الاستيطان في الأراضي المحتلة، وهذه هي أيضاً المواقف التي تتبناها محكمة العدل الدولية في لاهاي، والتي من المقرر أن تعقد جلسات استماع في فبراير/شباط 2024 بطلب من الجمعية العامة للأمم المتحدة وصل قبل اندلاع الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة.

رغم أن إسرائيل تعاملت دائماً بعداء شديد مع طروحات الاحتكام للقانون الدولي في الحروب والاعتداءات التي خاضتها وتخوضها، لكنها تمسكت داخل اتفاق "أوسلو" مثلاً بولاية قضائية تتيح لها محاكمة الفلسطينيين الذين "يلحقون الضرر بإسرائيل"، ولم توافق في المقابل على الاعتراف للسلطة الفلسطينية بولاية قضائية مماثلة، تتيح لها محاكمة إسرائيليين في حال اعتدائهم على الفلسطينيين أو ممتلكاتهم أو حقوقهم أو خرقهم للقانون المحلي أو الدولي.

كان هذا الوضع من جملة ما دفع بالسلطة الفلسطينية للحصول على صفة دولة غير عضو في الأمم المتحدة إفساحاً في المجال أمام تصديقها لاحقاً على نظام روما الأساسي والانضمام للمحكمة الجنائية الدولية عام 2015، بعد مسار طويل ومعقّد، حاولت كل من الولايات المتحدة وإسرائيل عرقلته عند كل مرحلة بوسائل مختلفة وصولاً إلى حدّ فرض الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب عقوبات مباشرة على موظفين وقضاة في المحكمة، منهم المدعية العامة للمحكمة في حينه فاتو بنسودا، شملت تجميد أصولهم ومنعهم من دخول الولايات المتحدة، شيء مما تفرضه الولايات المتحدة عادة كعقوبات فردية على إرهابيين دوليين أو مجرمي حرب أو زعماء عصابات تهريب مخدرات.

تمتلك المحكمة الجنائية الدولية منذ عام 2015 ولاية قضائية على كامل مساحة قطاع غزة والضفة الغربية، بما يشمل القدس الشرقية، وتسمح المادة 12 من نظام روما بالتحقيق في الجرائم المرتكبة على الأراضي الفلسطينية بغض النظر عن جنسية الفاعل، وبالتالي تدخل أفعال المسؤولين الإسرائيليين في غزة والضفة الغربية في اختصاص المحكمة، رغم أن إسرائيل ليست عضواً في المحكمة. مع ذلك، لم يبدأ أي تحقيق ذو صلة حتى بداية عام 2021 عندما أعلنت المدعية العامة السابقة للمحكمة عن فتحها تحقيقاً في "الوضع في فلسطين"، جاء في حينه الرد سريعاً من مكتب رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو أن هذا الإجراء "معادٍ للسامية".

توجهت المحكمة، وفقاً للمادة 18 من نظام روما، بخطاب للحكومة الإسرائيلية يتعلق بارتكاب إسرائيل جرائم حرب في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وكان يشمل ثلاثة قطاعات رئيسية للتحقيق، هي الحرب على قطاع غزة عام 2014، ووضع المستوطنات، والاحتجاجات السلمية على حدود غزة في عام 2018. وبقي التحقيق المذكور معلقاً من دون تطورات، تارةً لغياب الموارد لدى المحكمة، وطوراً بسبب جدل قانوني حول عدم القدرة على الوصول إلى الأراضي الفلسطينية المعنية؛ لأن إسرائيل تسيطر على كل المعابر في الضفة الغربية وقطاع غزة باستثناء المنفذ الجنوبي للقطاع (رفح) الذي تسيطر عليه نظرياً مصر وحكومة غزة، وبالتالي احتمال لجوء مدعي عام المحكمة كريم خان إلى تعليق التحقيق بموجب الفقرتين 1 و2 من المادة 53 من ميثاق روما، رغم أن هذا تحديداً لم يوقف التحقيق أو يعلقه في حالات سابقة مثل ليبيا والسودان، بل صدرت مذكرات اعتقال دولية بحق مشتبه بهم في كلتا الحالتين.

لقد بدا أن العملية الإسرائيلية الأخيرة في قطاع غزة، التي تلت هجوماً لحركة حماس داخل الأراضي الإسرائيلية في 7 أكتوبر/تشرين الأول، قد بثت روحاً جديدة في التحقيقات تمثلت في زيارة كريم خان إلى معبر رفح في 29 من الشهر ذاته، وإشارته الواضحة في كلامه من هناك إلى حق الضحايا في العدالة ومسؤولية المحكمة الجنائية الدولية عن تنفيذ ذلك وعن عمل فريقه على جمع وتحليل الأدلة. ثم في 17 نوفمبر/تشرين الثاني، أعلن المدعي العام عن تلقي مكتبه إحالة وطلباً للتحقيق في الوضع في غزة من خمس من الدول الأعضاء في المحكمة، يضاف ذلك إلى شكاوى سابقة قدمتها كل من منظمة مراسلون بلا حدود حول مقتل 8 صحافيين فلسطينيين وآخر إسرائيلي قتل في كيبوتس يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول، وشكوى من قناة الجزيرة حول مقتل مراسلتها شيرين أبو عاقلة في الضفة الغربية، وشكوى تقدمت بها تسع عائلات من ضحايا إسرائيليين في هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول وتطالب بإصدار مذكرات اعتقال بحق قادة في حماس.

وأيضاً هناك شكوى تخص "الإبادة الجماعية" في غزة، تقدم بها نحو 100 محامٍ دولي، وشكوى تقدمت بها ثلاث منظمات فلسطينية بتهم "جرائم حرب" و"فصل عنصري" و"إبادة جماعية" و"تحريض على الإبادة الجماعية" طالبت بإصدار مذكرات اعتقال بحق 3 قادة إسرائيليين. عدا ذلك، فقد أشارت لجنة التحقيق الدولية المستقلة المعنية بالأراضي الفلسطينية المحتلة بتاريخ 10 أكتوبر/تشرين الأول، إلى امتلاكها أدلة واضحة على جرائم حرب ارتكبت في غزة وإسرائيل، وأنها سوف تشارك هذه الأدلة مع المحكمة الجنائية الدولية.

لدى المحكمة الجنائية الدولية من الصلاحيات والأسباب القانونية ما يكفي للتحرك، ولكن هذا كله لم يفضِ لخطوات عملية حتى اللحظة، لكن استغرق الأمر ستة أيام فقط قبل إعلان المحكمة الجنائية الدولية بدء تحقيقات في جرائم حرب روسيا في أوكرانيا، وخلال أسبوعين من بدء التحقيق صدرت مذكرتا توقيف بحق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وماريا بيلوفا المسؤولة في مكتب الرئيس. خلال هذه الفترة القصيرة، كانت قد تقدمت أكثر من 40 دولةً بطلب فتح التحقيق، ودعمت الطلب دول غير أعضاء في المحكمة مثل الولايات المتحدة. حدث هذا كله رغم أن أوكرانيا ليست أصلاً دولةً عضواً في المحكمة، وتقتصر الولاية القضائية للمحكمة فيها على طلب الحكومة الأوكرانية بموجب المادة 12 اختصاصاً زمنياً محدداً للمحكمة على أراضيها.

نحن هنا في الحالة الفلسطينية، في حالة فضائحية دولية من ارتهان العدالة المطلق للسياسة من دون أي ضوابط أو مراعاة للأثر الذي يتركه هذا النوع من الارتهان واستنسابية المعايير على أزمات أخرى في العالم ومدى الثقة العالمية بالقانون الدولي. لا يقتصر الأمر على كونه فضيحةً أخلاقية، بل هو أيضاً هزيمة ساحقة لفكرة العدالة والقانون الدولي نفسها. لقد كانت علّة تأسيس المحكمة الجنائية الدولية هو الوقوف في وجه القوة الغاشمة العسكرية والسياسية؛ تحقيقاً للإنصاف وتأسيس السلام على العدالة. هذا لا يعني أن المحكمة الجنائية الدولية بإمكانها تحقيق السلام بمفردها، أو أنها سوف تستطيع أن تلقي القبض على الجناة المحتملين ومحاكمتهم، إذ لا تمتلك قوة شُرْطِية تنفيذية مباشرة، لكن بإمكان المحكمة دائماً، كما حدث في حالات سابقة، الاستعانة بالإنتربول والشرطة المحلية في الدول الأعضاء لتنفيذ مذكرات الاعتقال أو مذكرات التعاون التي تربطها مع الدول غير الأعضاء.

كما أن بإمكان المحكمة بالطبع، عبر اتخاذ الإجراءات المناسبة ضمن ولاية النائب العام المحددة في نظام روما، منع وردع المسؤولين والقوات الإسرائيلية عن ارتكاب مزيد من الجرائم الفظيعة، وأيضاً تذكير الدول جميعاً بضرورة الحرص على انسجام مواقفها السياسية تجاه النزاع الحالي، مع التزاماتها وتعهداتها في نصوص القانون الدولي والامتناع عن المساعدة والتحريض والمساهمة في ارتكاب جرائم دولية.

يبدو أن موقف المحكمة الجنائية الدولية في بداية العقد الثالث على تأسيسها معقدٌ أكثر من أي وقت مضى، وتبدو الاعتبارات السياسية البحتة تحكم قراراتها واستراتيجية قضاياها. هذا لا يخدم أياً من العدالة الدولية أو موقف المحكمة في نزاعات عديدة أخرى، منها أوكرانيا أيضاً.

لقد تعرضت المحكمة سابقاً لانتقادات محقّة في موقفها من جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية حدثت في العراق وأفغانستان، وعجزت المحكمة عن التعامل معها لأسباب سياسية، وهي اليوم رغم توافر كل المعطيات القانونية وامتلاكها للولاية القضائية اللازمة وتوافر الأدلة المدعومة من أطراف حقوقية محلية ودولية، لا تزال عاجزةً عن المبادرة والسير قدماً في تحقيقها في الجرائم والانتهاكات بحق الشعب الفلسطيني، وصولاً لإصدار مذكرات اعتقال. ورغم عدم واقعية تنفيذ مذكرات الاعتقال هذه في وقت قريب، إلّا أنها ستكون أساسيةً في تقييد حركة المشتبه بارتكابهم جرائم حرب وإحراج الدول التي تدعمهم وتستقبلهم، ويضع هذه الدول في خانة المتستر على مرتكبي جرائم دولية بما يخالف تعهداتها القانونية الدولية، كما أنه يرسل الإشارة الصحيحة إلى الضحايا بأن القانون الدولي وُجد لينصفهم ويمنحهم الأمل والحماية، وليس لتمتطيه القوة الغاشمة حيث ووقت ما تشاء.

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً