تابعنا
من الواضح أن التطورات الاقتصادية العالمية تركت أثرها بشكل جلي ومتفاوت في الاقتصادات النامية، وبالتالي فإن تباطؤ معدلات النمو في الاقتصادات المتقدمة والصين تزيد احتمالية فقد الاقتصادات النامية زخم النمو، وبشكل أكبر لو استُثنيَت الهند.

ستمثل نهاية عام 2024 نقطة المنتصف لما كان من المتوقع أن يكون عقداً تحويليّاً للتنمية، إذ تتجه الدول إلى القضاء على الفقر المدقع وتحقيق الأهداف التنموية، لكن البنك الدولي أشار إلى أن توقعات العامين القادمين تبدو قاتمة، فما يلوح في الأفق بدلاً من ذلك، مستقبل بائس لنمو الاقتصاد العالمي، ويرجع ذلك إلى وابل من الصدمات العالمية والمحلية التي شهدها العالم في السنوات الخمس الأخيرة.

ومن المتوقع أن يحقق الاقتصاد العالمي معدلات هي الأدنى والأبطأ في فترة 5 سنوات على مدى 30 عاماً ماضية، ما سيترك تداعيات كبيرة على الاقتصاد العالمي، لا سيما على الاقتصادات النامية واقتصادات الأسواق الناشئة.

توقعات لتباطؤ مستمر

وتُشير أحدث توقعات البنك الدولي إلى تباطؤ النمو العالمي إلى 2.4% في عام 2024 من 2.6% لعام 2023، قبل أن يتحسن بشكل طفيف ويرتفع إلى 2.7% في 2025، ويُعد هذا العام الثالث على التوالي لتباطؤ النمو العالمي.

بينما تُشير توقعات أخيرة لصندوق النقد الدولي إلى أنه من المتوقع أن يبلغ النمو العالمي 3.1% في عامي 2023 و2024، و3.2% في 2025.

وبذلك فإن التوقعات للفترة 2024-2025 أقل من المتوسط التاريخي للفترة من 2000 إلى 2019، البالغ 3.8%.

ويتوقع البنك الدولي أن يتباطأ نمو الاقتصادات المتقدمة من 1.5% في 2023 إلى 1.2% في 2024 قبل أن تتحسن قليلاً وتحقق 1.6% في 2025.

وفي المحصلة، فإن جميع التوقعات لا تزال أقل من المتوسط التاريخي خلال الفترة 2000-2019، الذي كان 1.9%.

من جانب آخر، من المتوقع تراجع نمو الاقتصادات النامية إلى 3.9% في 2024 نزولاً من 4% في 2023، وأن يبلغ 4% في 2025، وفقاً للبنك الدولي. وبشكل عام، فإن جميع التوقعات هي أقل من المتوسط التاريخي، البالغ 5.6% في الفترة 2000-2019.

وبالنظر إلى ما سبق، نجد أن أداء الاقتصادات النامية والناشئة في صورة مجموعة أفضل من أداء الاقتصادات المتقدمة، وفقاً لتوقعات عامي 2024 و2025 للمجموعتين.

وفي الواقع، كانت مجموعة الاقتصادات النامية مرشحة لتحقيق أداء وتوقعات أفضل من هذه، لولا تواضع أداء الاقتصاد الصيني في السنوات الأخيرة، الذي يُعد أكبر اقتصادات المجموعة، والواجهة الأبرز لصادرات عديد من الدول النامية، ومن المتوقع أن يتباطأ الاقتصاد الصيني إلى 4.6% في 2024 و4.1% في 2025 من 5.2% في 2023.

أما الاقتصاد الهندي، ثاني اقتصاد في المجموعة النامية، من المتوقع أن يحقق نموّاً بمعدل 6.5% في عامي 2024 و2025، وسيكون الأعلى عالميّاً.

وفي الواقع، إن هذه المعدلات والتوقعات تُخفي التباين الكبير في معدلات وتوقعات نمو الاقتصادات النامية فرادى، وحتى التباين في أداء المجموعات الفرعية، إذ تأتي الاقتصادات النامية الآسيوية أفضل المجموعات -من حيث معدل النمو- بين المجموعات الفرعية كافة في العالم، وليس بين المجموعات الفرعية للدول النامية واقتصادات الأسواق الناشئة فحسب، كما أنها تعد وحدها مسؤولة عن نحو نصف معدل نمو الاقتصاد العالمي.

تراجع التجارة الدولية

من ناحية أخرى، نجد أن الاقتصاد العالمي بالرغم من التباطؤ المتوقع في العامين القادمين، فإنه في وضع أفضل نوعاً ما مما كان متوقعاً له قبل عام، بعد أن تراجعت مخاطر احتمالية حدوث ركود عالمي، وذلك يرجع بقدر كبير إلى قوة الاقتصاد الأمريكي والاقتصادات الكبرى بشكل أساسي، لكن التوترات الجيو-سياسية المتصاعدة في أماكن عديدة حول العالم، لا سيما في الشرق الأوسط، من الممكن أن تخلق أخطاراً جديدة تواجه الاقتصاد العالمي على المدى القريب.

وفي الوقت نفسه، أصبحت الآفاق قصيرة ومتوسطة الأجل قاتمة بالنسبة لعديد من الاقتصادات النامية وسط تباطؤ معدلات النمو العالمي وفي معظم الاقتصادات الكبرى والمتقدمة، فضلاً عن تباطؤ التجارة العالمية، والأوضاع المالية والنقدية الأكثر تشدداً منذ عقود.

ومن المرجح ألّا يتجاوز نمو التجارة العالمية في 2024 نصف المتوسط في السنوات العشر التي سبقت صدمة جائحة كورونا، مما سيؤثر سلباً في صادرات الدول النامية، وفي الوقت نفسه، من المرجح أن تظل تكاليف الاقتراض مرتفعة بالنسبة للاقتصادات النامية، لا سيما تلك التي تعاني من ضعف التصنيف الائتماني، مع بقاء أسعار الفائدة العالمية عند أعلى مستوياتها منذ أربعة عقود بعد استبعاد أثر التضخم.

وبحلول نهاية عام 2024، سيظل الناس في 1 من كل 4 بلدان نامية تقريباً، ونحو 40% من البلدان منخفضة الدخل أكثر فقراً مما كانوا عليه عشية صدمة كورونا، انعكاساً لتباطؤ النمو العالمي والاقتصاديات المتقدمة.

استمرار التفاوت في مستويات دخل الفرد

وفي غضون ذلك، من المتوقع ألّا تحرز الاقتصادات النامية تقدماً ملحوظاً في اللحاق بمستويات دخل الفرد في الاقتصادات المتقدمة، باستثناء الصين والهند، إذ يشهد عديد من البلدان النامية مزيداً من التخلف عن الركب، فمن المتوقع أن يبقى نصيب الفرد من الدخل هذا العام أقل من مستواه لـ2019 في ثلث البلدان منخفضة الدخل وفي نصف البلدان التي تعاني من أوضاع اقتصادية هشة، فضلاً عن تأثرها بزيادة مخاطر التوترات الجيو-سياسية، انعكاساً لتباطؤ النمو العالمي، لا سيما في الاقتصادات المتقدمة والاقتصادات الكبيرة.

الاختيار ما بين التضخم أو النمو

دفعت صدمة كورونا وبعدها صدمة الحرب الروسية-الأوكرانية، وما تبع ذلك من انهيار سلاسل التوريد العالمية وارتفاع أسعار السلع الأساسية، إلى ارتفاع التضخم العالمي ليبلغ 8.7% في 2022، و7.3% في الاقتصادات المتقدمة و9.8% في الاقتصادات النامية.

الأمر الذي دفع البنوك المركزية حول العالم إلى تشديد سياستها النقدية لمكافحة التضخم، نظراً لأن التضخم أصبح أعلى من المعدلات المستهدفة في جميع الاقتصادات المتقدمة والنامية، على حدٍّ سواء.

ومن المتوقع أن ينخفض التضخم العالمي من 6.8% في 2023 إلى 5.8% و4.4% على التوالي لعامي 2024 و2025، ويُتوقع أيضاً أن تشهد الاقتصادات المتقدمة تراجعاً أسرع في التضخم، ليصل فيها إلى 2.6% في 2024، مقارنة بالاقتصادات النامية، التي يُتوقع أن يصل فيها إلى 8.1%.

وبشكل عام، فإن أسعار السلع الأساسية ستمثل تحدياً كبيراً لأغلب الدول النامية التي لا تزال أعلى بأكثر من 40% من مستويات ما قبل جائحة كورونا، فضلاً عن ذلك، فإن زيادات الأجور التي أجراها عديد من البلدان النامية فشلت في الحدّ من تأثيرات التضخم، لا سيما البلدان التي تعاني من معدلات تضخم مرتفعة، مثل الأرجنتين وفنزويلا ومصر وباكستان وغيرها.

كما أن الاقتصادات النامية ستواجه الاختيار ما بين دفع زخم النمو أو الاستمرار في مكافحة التضخم، وإلا فإنها ستواجه ظاهرة الركود التضخمي، كما في حالة الدول المذكورة آنفاً.

الخلاصة

من الواضح أن التطورات الاقتصادية العالمية تركت أثرها بشكل جلي ومتفاوت في الاقتصادات النامية، وبالتالي فإن تباطؤ معدلات النمو في الاقتصادات المتقدمة والصين تزيد احتمالية فقد الاقتصادات النامية زخم النمو، وبشكل أكبر لو استُثنيَت الهند.

من جانب آخر، سيظل النمو ضعيفاً في كثير من الاقتصادات النامية في المدى القصير، وحتى المتوسط، مما قد يؤدي إلى حدوث ارتباك في ما يتعلق بالسياسات الاقتصادية في عديد من البلدان النامية، في ظل الصعوبات التي ستواجهها في محاولة استعادة زخم النمو ومكافحة التضخم المرتفع معاً.

وبالتالي، المحافظة على الاستقرار الاقتصادي الكلّي واستدامة المالية العامة، لا سيما في ظل ارتفاع الديون السيادية والخارجية لغالبية هذه البلدان وتراجع تصنيفاتها الائتمانية، بالإضافة إلى صعوبة وصولها إلى الأسواق المالية الدولية مما يجبرها على دفع تكلفة مرتفعة مقابل الاقتراض من الخارج، فضلاً عن إمكانية تحقيق الأهداف الاقتصادية والتنموية في هذه البلدان.

ومن المرجح أن تعاني البلدان النامية التي تعتمد على تصدير السلع الأولية والمواد الخام أكثر من غيرها في ظل تباطؤ النمو في الاقتصادات المتقدمة والاقتصادات الكبيرة مثل الصين والهند، مما يزيد المعوقات المزمنة لآفاق النمو في الاقتصادات النامية المصدِّرة للسلع الأولية والتقليدية وزيادة ارتباط تحقيقها النمو الاقتصادي بالنمو في البلدان المتقدمة.

كذلك، من المتوقع أن تستمر الفجوات في الاتساع ما بين البلدان النامية والبلدان المتقدمة، بل حتى بين مختلف البلدان النامية وعلى مستوى المجموعات الفرعية أيضاً.

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً