تابعنا
من الطبيعي أن يفرض الذكاء الاصطناعي في الحروب الحديثة العديد من التحديات على القوى الأخرى في العالم، وخصوصاً الولايات المتحدة وحلفاءها الغربيين، وذلك في ظل محاولتها المستميتة الحفاظ على الوضع الراهن.

على مرّ التاريخ، ومن الأسلحة الخفيفة التي كانت تستخدم في الصيد، إلى أسلحة حصار المدن الثقيلة، كان جوهر الحرب يدور حول فكرة استخدام قدرٍ كافٍ من القوة لإلحاق الضرر.

ومع مرور الوقت كان يحدث تكثيف في كتلة هذه القوة ونطاق وصولها. ومع ذلك وحتى ظهور أنظمة التوجيه الآلي إبان الحرب العالمية الثانية، كانت دقة الأسلحة محدودة إلى حدٍّ بعيد بسبب غياب القدر الكافي من المعلومات.

بدأ هذا التوجه بالتغير مع ظهور الصواريخ الباليستية وصواريخ كروز في عام 1944 التي بدأت تستخدم تقنيات التوجيه الذاتي، وتسافر لمسافات شاسعة لتصيب أهدافها بدقة كبيرة. بعد ذلك كان التطور في هذا المجال سريعاً، فبحلول عام 1983، كانت الصواريخ من طراز توماهوك الأمريكية تمتلك ما يشبه الأدمغة الخاصة بها، إذ تستطيع أن تناور في أثناء طيرانها لإصابة الهدف.

وعلى الرغم من أن عملية الإطلاق تتم بأيدٍ بشرية، فإن الصاروخ وفور وصوله إلى مساره الجوي، يتولى ذاتياً قيادة نفسه، ويصبح نظامه الداخلي مسيطراً ويصيب هدفه بدقة متناهية.

وفي العصر الحديث، لا تعد الثورة في الجانب المعلوماتي العسكري حكراً على الأسلحة طويلة المدى. فالدفاعات الأوكرانية التي تتصدى للهجوم الروسي العسكري أثبتت أن أنظمة التوجيه الذاتي الدقيق قد تعمل أيضاً ضمن الأسلحة قصيرة ومتوسطة المدى مثل صواريخ جافلين المضادة للدبابات وستينغر المضادة للطائرات، التي صعّبت المهمة على القوات المهاجمة رغم أنها أكبر حجماً ومجهزة بأسلحة أضخم. إنه مثال واضح على أنه في العصر الحديث، لا يهم حجم السلاح بل مدى ذكائه.

تعطي هذه المقدمة لمحة مختصرة عن الاحتمالات التي يمكن أن تظهرها أتمتة الأسلحة، وخصوصاً مع تزايد تقنيات الذكاء الاصطناعي في الأغراض العسكرية. بعيداً عن الصواريخ والأسلحة المستخدمة في ساحة الحرب، فإن تطبيقات الذكاء الاصطناعي في المجال العسكري تعتبر واسعة ومتنوعة بشكل مدهش. على سبيل المثال، تحتوي الترسانة البحرية الصينية على أكثر من عشرين نوعاً من الألغام، يتمتع بعضها بقدرات ذاتية متطورة يمكنها التعرف على سفن العدو، ثم الصعود من قاع المحيط لاستهدافها. ومن الجدير بالذكر أنه حتى حاملات الطائرات العملاقة التابعة للبحرية الأمريكية من طراز فورد، والتي يبلغ سعر كل منها أكثر من 10 مليارات دولار، معرضة لمثل هذه الأسلحة الذكية زهيدة التكلفة.

من ناحية أخرى، تعتبر روسيا رائدة في مجال الروبوتات البحرية. لقد طور الروس روبوتاً ذاتي القيادة تحت الماء، يُطلق عليه اسم "U-bot"، مصمم لاكتشاف وصلات الألياف الضوئية تحت الماء واختراقها أو قطعها. وبالنظر إلى أن أكثر من 95% من الاتصالات العالمية تمر عبر ما يقرب من 400 رابط منتشرة في جميع أنحاء العالم، فإن عدداً قليلاً من هذه الروبوتات قادر على إحداث معضلة اتصالية هائلة على مستوى عالمي.

ففي القرن الحادي والعشرين، يعمل الذكاء الاصطناعي على إعادة تشكيل مشهد الحرب. نحن نعيش في امتداد واسع ومتأصل للفضاء السيبراني المملوء بالشبكات الإلكترونية والروبوتات والألواح الرقمية، وهو ما أدى إلى ظهور طفرة في العمليات السيبرانية عالية التأثير، التي تتراوح من الجرائم السيبرانية التي ترهق الاقتصاد والعمليات التجارية إلى العمليات الاستراتيجية واسعة النطاق التي تهدد البنى التحتية، والأمر المثير للدهشة هو أن هذه الروبوتات التي تشن هذه العمليات مزودة بقدرة التحكم والسيطرة الذاتية.

على الجهة المقابلة، من الطبيعي أن يفرض الذكاء الاصطناعي في الحروب الحديثة العديد من التحديات على القوى الأخرى في العالم، وخصوصاً الولايات المتحدة وحلفاءها الغربيين، وذلك في ظل محاولتها المستميتة الحفاظ على الوضع الراهن.

يرى العديد من المراقبين أن استجابة الولايات المتحدة لسباق التسلح الذكي متأخرة نوعاً ما. ففي وقت مبكر من عام 2018، أشار مايكل غريفين، وكان يشغل منصب وكيل وزارة الدفاع للأبحاث والهندسة، بصراحة إلى أن "سباق التسلح عبر أنظمة الذكاء الاصطناعي قد بدأت على قدم وساق، ولكن الولايات المتحدة لم تنضم بعد".

بشكل عام تواجه الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون من أنصار الليبرالية والسوق الحرة ثلاثَ عقبات جوهرية فيما يتعلق بسوق التسابق العسكري المعزز بالذكاء الاصطناعي. التحدي الأول هو القائم على الإدراك والاستيعاب والفهم.

يعتقد الكثيرون من الذين يشغلون المناصب العليا في القطاعات العسكرية والسياسية أن طفرة الذكاء الاصطناعي لا تتوافق مع الفهم التقليدي المتعلق بسباق التسلح، الأمر الذي يجعل من الصعب تأكيد الضرورة الملحة إلى المنافسة طالما أن الشعور السائد هو عدم وجود هذه المنافسة من الأساس.

كما تواجه الولايات المتحدة إشكالية هيكلية في سوق سباق تسلح الروبوتات الذكية. في الأغلب يأتي الجزء الأكبر من أبحاث الروبوتات والذكاء الاصطناعي من القطاع الخاص. أما على مستوى المؤسسات الرسمية مثل البنتاغون، فإن الجزء المخصص لأبحاث هذا المجال تعد متواضعة، إذ ينفق البنتاغون واحداً في المئة من ميزانيته، أي 7 مليارات دولار فقط لتطوير أنظمة الذكاء الاصطناعي، ويتناقص هذا الرقم بشكل كبير ضمن المؤسسات الخاصة التي تستهدف بأبحاثها تطوير الذكاء الاصطناعي للأغراض الاستهلاكية والتجارية وليس العسكرية.

على العكس تتبنى الصين استراتيجية مختلفة، إذ إن 85 بالمئة من أبحاثها في مجال الروبوتات والذكاء الاصطناعي تتلقى تمويلاً مباشراً أو غير مباشر من الدولة وخصوصاً تلك المخصصة للاستخدامات العسكرية. تسير روسيا على المنهج ذاته تقريباً، إذ قدم الكرملين الدعم لما يقرب من 400 شركة من أجل تطوير الروبوتات الاستراتيجية ذات الاستخدامات العسكرية. دفعت هذه التوجهات الكثيرين للاعتقاد بأن البناء الهيكلي للاقتصادات الحرة لا يتلاءم مع التنافس الحاصل الآن في المجالات التقنية المتقدمة، إذ تتفوق الدول التي تتبنى نماذج اقتصادية مغايرة بسبب ما يتوافر لديها من القدرة على تخصيص موارد هائلة لعمليات التطوير، وبشكل سريع يخلو من العقبات البيروقراطية كتلك الموجودة في الأنظمة الديمقراطية.

إن التحدي الرئيسي الأخير الذي يواجه الغرب في تبني سباق التسلح "الذكي" يتمحور حول الأخلاق. على الصعيد العالمي، هناك قلق كبير داخل الدول الديمقراطية فيما يتعلق بمنح صلاحية "قرار ممارسة القتل" إلى الآلات ذاتية القيادة. لقد اكتسب هذا الشعور قدراً كبيراً من الاهتمام لدرجة أن هناك جهداً كبيراً للأمم المتحدة يهدف إلى حظر "أنظمة الأسلحة الفتاكة المستقلة" (LAWS). وقد حصل هذا المشروع على دعم العديد من منظمات المجتمع المدني غير الحكومية والشخصيات البارزة، بما في ذلك رواد التكنولوجيا مثل ستيف وزنياك وإيلون ماسك.

الحقيقة المرة هي أن دولاً مثل الولايات المتحدة وبريطانيا، من بين ديمقراطيات أخرى، قد امتنعت عن فرض حظر صريح على استخدام وتطوير الروبوتات المسلحة. ومع ذلك، فإن المناقشات المتزايدة حول "الروبوتات القاتلة" داخل هذه البلدان أعاقت وتيرة تطورها. على النقيض، لم تظهر كل من الصين وروسيا أي تحفظات في تطوير الروبوتات العسكرية، ما يضعهما في طليعة سباق التسلح هذا حتى الآن.

إن غياب المعايير الأخلاقية، وتصاعد التنافس الجيوسياسي، والتطور المتسارع في أنظمة الذكاء الاصطناعي سوف تعزز كلها من استخدام "الروبوتات القاتلة" في المجالات العسكرية.

في نهاية المطاف سوف تدخل الولايات المتحدة وغيرها من الدول هذا السباق بقوة، ونظراً للتداخل الكبير بين القطاعات الخاصة والعامة في هذا المجال، فإن مآلات هذا السباق تبدو صعبة التوقع، وسيكون الحد منها أمراً عسيراً.

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً