تابعنا
باتت المقاومة اليوم قادرة على اجتياح المستوطنات والمواقع العسكرية في ضربة خاطفة ومعقّدة على المستوى الاستخباري والعملياتي، وأن تلحق هزيمة غير مسبوقة بجيش الاحتلال الإسرائيلي الذي لم يعهد منذ أكثر من نصف قرن مثل هذا النوع من الهزائم.

بدا من اللحظات الأولى لمعركة "طوفان الأقصى" التي أطلقتها حركة حماس في غلاف قطاع غزة، أنّها نتاج تخطيط إستراتيجي وعملياتي منذ شهور وربما سنوات طويلة، وأنّ هذا الأداء الذي فاجأ الجميع كان يعدّ من أجل توظيفه في لحظة فارقة تحتاج إليها القضية الفلسطينية ويحتاجها الفلسطينيون.

وفي قد ظهر هذا في خطابات قيادة المقاومة الفلسطينية في أكثر من مناسبة، كان آخرها كلمة القائد العام لكتائب القسام محمد الضيف حين أعلن انطلاق معركة "طوفان الأقصى"، أنّ المقاومة تأخذ طبيعة التحولات الجارية في المجتمع والحكومة الإسرائيلية بشكل جدّي، وتظهر الدلائل، مرةً تلو الأخرى، أنّ هناك قدرة استثنائية للمقاومة الفلسطينية وحركة حماس على وجه التحديد على قراءة المشهد الإسرائيلي بكل مستوياته السياسية والعسكرية والاجتماعية والاقتصادية وطبيعة علاقاته الخارجية.

إنّ هذا الإدراك المعمق للمشهد الإسرائيلي يجري توظيفه في إدارة الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي. والخلاصة الأهم في ذلك، أنّ المجتمع الإسرائيلي أصبح أكثر يمينية وتطرفاً، وأنّ سمات المجتمع هذه وجدت طريقها لمؤسسات دولة الاحتلال.

وتستهدف هذه الجماعات المتطرفة -عبر دخولها للحكومة- تعزيز مسارات حسم الصراع وتسريعها، وتصفية القضية الفلسطينية عملياً وعلى الارض، بمعنى أنّها تريد أن تحقق إنجازات تتعلق بالسيطرة على الأرض وطرد الفلسطينيين، ووضع اليد على القدس والمسجد الأقصى، بل وهدمه وبناء الهيكل المفترض مكانه.

لقد كانت هذه الأهداف قبل سنوات مجرد شعارات لمجموعات دينية متطرفة واستيطانية معزولة عن صنع القرار في إسرائيل، بل ولديها تحديات مع المؤسسات الأمنية والعسكرية للاحتلال.

لقد باتت هذه الشعارات برنامج عمل تتبناه الحكومة الحالية وتقرّ له الميزانيات، فقرارات تشريع البؤر الاستيطانية في الضفة الغربية وخطط جلب مزيدٍ من المستوطنين اليهود من أرجاء العالم هي جزء من برنامج وزارات المالية والدفاع التي يشغلها زعيم التيار الديني القومي المتطرف بتسلئيل سموتريتش.

كما أنّ مسارات الضغط على فلسطينيي الداخل المحتل عام 1948 يقودها وزير الأمن القومي في حكومة الاحتلال المتطرف إيتمار بن غفير، وبات كلا المتطرفَين يملكان مقدرات الدولة ونفوذها ومؤسساتها لتنفيذ مخططاتهم الاستيطانية والإحلالية.

وفي المسجد الأقصى المبارك، باتت الاقتحامات برنامج ترعاه أحزاب وهيئات حكومية، ويقودها وزراء في الحكومة، وباتت المنظومة الأمنية والعسكرية في خدمة تأمين الاقتحامات في الطريق إلى تهويد المسجد الأقصى.

وفي ظل هذا المشهد الصعب الذي يواجه القضية الفلسطينية ويواجه الفلسطينيين، تدور رحى تحولات إقليمية كبيرة في المنطقة لتعزيز مسار التطبيع مع دولة الاحتلال وإدماجها في المنظومة الإقليمية.

وترعى الولايات المتحدة الأمريكية هذا المسار وتضم فيه الدول العربية والإسلامية الرئيسية في المنطقة، مما يعني تجاوزاً للقضية الفلسطينية والتخلي عن موقف الحد الأدنى الذي كانت تتبناه في مبادرة السلام العربية. الأمر الذي يحول القضية الفلسطينية إلى قضية إنسانية لمجموعات سكانية تنشد العيش والطعام والشراب والسكن.

واستجابةً لهذه التحديات الجسام، كانت خيارات الفلسطينيين الفاعلة والمؤثرة والقادرة على وقف هذه المسارات أو التأثير عليها في الحد الأدنى، هي المقاومة بكل الوسائل والأشكال والجغرافيا وبكل السقوف الممكنة، وهو ما عبّرت عنه حركة حماس وبقية الفصائل في غزة، بأخذ هذا القرار بعملية عسكرية وأمنية نوعية فاجأت الصديق والعدو والقريب والبعيد، وهي بلا شك خطوة ستجبر الجميع على إعادة حساباتهم بشكل كبير، بخاصة فيما يتعلق بتجاوز القضية الفلسطينية والفلسطينيين.

بلا شك، أنّ تداعيات هذه المعركة ودلالاتها ستستغرق مساحة ووقتاً كبيرَين من الدراسة والتحليل، فالمقاومة الفلسطينية اليوم تنتقل إلى مرحلة متقدمة ونوعية على مستويات عدة.

سياسياً، تضع المقاومة الفلسطينية -حركة حماس تحديداً- القضية الفلسطينية على طاولة الجميع وتطرح نفسها قائداً حقيقياً وعملياً لآمال وطموحات الشعب الفلسطيني، وهي دلالة بأنّ كل محاولات احتواء المقاومة وبرنامجها فشلت فشلاً ذريعاً.

وعلى مستوى السياسة الإقليمية، فالرسالة واضحة جداً، أنّ قضية فلسطين لها شعبها وأهلها الذين يملكون خياراتهم وقادرون على إدارة الصراع ولا يمكن السماح لأحد بالنوب عنهم والتصرف بالقضية الفلسطينية وفق رؤيته وبعيداً عن آمال وطموحات الشعب الفلسطيني.

عسكرياً، تثبت المقاومة الفلسطينية أنّها لا تجمد على شكل معين، ولا يحدّها سقف الاحتلال، ولا يؤثر في تفكيرها الصورة النمطية الكلاسيكية لدولة الاحتلال الإسرائيلي كونها أقوى جيوش المنطقة، فالتاريخ الحديث للمقاومة الفلسطينية شهد تنوعاً واسعاً في الأدوات والتكتيكات والاستراتيجيات، بدءاً من المقاومة الشعبية بالمظاهرات والاعتصامات والمواجهات بالحجارة والأسلحة البيضاء، إلى عمليات إطلاق النار والعمليات التفجيرية إلى امتلاك الصواريخ والمقذوفات.

إلا أنّ الواقع في قطاع غزة، ومنذ عام 2007 حين سيطرت حركة حماس على القطاع، أخذ منحى مختلفاً ببداية مرحلة مراكمة القوة وتطوير الأداء الأمني والاستخباري والتصنيع الذاتي، وامتلكت المقاومة مساحة جغرافية وظفتها، على ما بدا خلال الأيام الأخيرة، بشكل متقن واستراتيجي في تطوير منظومات القيادة والسيطرة والتدريب والتصنيع والتخطيط.

وباتت المقاومة اليوم قادرة على اجتياح المستوطنات والمواقع العسكرية في ضربة خاطفة ومعقّدة على المستوى الاستخباري والعملياتي، وأن تلحق هزيمة غير مسبوقة بجيش الاحتلال الإسرائيلي الذي لم يعهد منذ أكثر من نصف قرن مثل هذا النوع من الهزائم، التي وصفها كتاب غربيون وإسرائيليون بأنّها "مذلة".

وقد وقف الاحتلال عاجزاً أمام فشل أجهزته الاستخباراتية والأمنية الذريع في التنبؤ بالهجوم، أو حتى تقدير موقف قيادة المقاومة والخيارات التي تفكر بها، ويرافق ذلك فشل لقوات الجيش على المستوى العملياتي، إذ بدا غلاف غزة لقمة سائغة أمام المقاومين الفلسطينيين والذين أظهروا مهارة وانضباطاً مذهلَين في الأداء. الأمر الذي سيجلب تداعيات داخل المؤسسات العسكرية والأمنية الإسرائيلية بتشكيل لجان على غرار لجنة فينوغراد بعد حرب يوليو/تموز 2006 في جنوب لبنان.

إنّ هذا النوع من العمليات العسكرية الذي يكسر قواعد الاشتباك في غلاف غزة ويغادر مرحلة الحدود الآمنة سيعقّد المشهد أمام الاحتلال، وستكون إعادة تأهيل مستوطنات غلاف غزة أمراً مشكوكاً فيه، وقد يفتح هذا الأمر باباً من الخيارات للمقاومة الفلسطينية في غزة وإمكانية تحرير أراض في ظل عجز جيش الاحتلال عن البقاء في مناطق معزولة وغير مأهولة ومعرّضة للعمليات الهجومية.

لا تزال المعركة في بدايتها، ومن المحتمل أن تأخذ أشكالاً جديدة، لكن ما حققته المقاومة الفلسطينية من اللحظة الاولى يصعب تجاوزه أو تعويضه.

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي