تابعنا
لم تعد "لا استطيع أن أتنفس" مجرد صيحة أطلقها أحد المواطنين الأمريكيين السود الذي تعرض للقتل مؤخراً، بل أصبحت شعاراً لجائحة العنصرية التي تجتاح أمريكا وتعبر عن الطبيعة التمييزية والاقصائية التي يتعرض لها الملونون.

أعاد مقتل المواطن الأمريكي من أصول إفريقية جورج فلويد في مدينة مينيابوليس الأمريكية بتاريخ 25 مايو/أيار إلى الواجهة قضية العنصرية في الولايات المتحدة، وأضحت جملته "لا أستطيع أن أتنفس" وهو يواجه سكرات الموت، معبرة عن واقع العنصرية المقيت الذي ما يزال يجثم على صدر الولايات المتحدة، أو ما أسماه محامي الضحية بجائحة العنصرية. كان قانون التصويتVoting act الذي تم تبنيه سنة 1965 قد ألغى التمييز العنصري بعد سلسلة من الاحتجاجات في ولايات الجنوب، بلغت أوجها بتجمع جماهيري كبير في واشنطن وخطاب الزعيم الأسود مارتن لوثر كينغ الشهير "لدي حلم".

رغم تبني القانون الذي يُجرّم التميز العنصري، ظل السود في الولايات المتحدة في وضع اجتماعي متدنٍ بالنظر إلى أوضاعهم الاجتماعية في أسفل الهرم وضعف التأهيل، يعيشون في أحياء هامشية، في مبانٍ مهترئة وأوضاع اجتماعية هشة من ضعف الخدمات الاجتماعية، وتفشي الجريمة، وتحلل الأسرة، وشيوع المخدرات.  

كان هذا الوضع هو ما دفع الولايات المتحدة إلى تبني ما يسمى بقانون التمييز الإيجابي Positive action لفائدة الفئات المهمشة، ومنها السود بالأساس، لكن التدابير المواكبة للتمييز الإيجابي لم تغير من واقع الحال كثيراً. تكاد العلاقات الاجتماعية بين البيض والسود أن تكون شبه منعدمة، وتبقى في جامعة هاوارد Howard، على سبيل المثال، بمدينة واشنطن أماكن مخصوصة للسود الأمريكيين أو الأجانب من إفريقيا خاصة ولا يرتادها البيض.

عشت بواشنطن من العام 1992 إلى العام 1995، ووقفت على ذلك الجانب غير المرئي من العنصرية المستترة، من خلال أبارتيد فعلي، وصادف حلولي بها تعرض رجال الأمن لمواطن أمريكي رودني كينغ Rodney King بلوس أنجلس بالضرب سنة 1992، ممَّا أثار غضب السود مع أعمال الشغب بالمدينة وضواحيها، وانتهى الأمر بتبرئة رجال الشرطة الذين عنّفوا الضحية.

استطاعت الولايات المتحدة أن تستوعب كل المهاجرين وأن تُذوّبهم في أتونها سوى الإنسان الأسود، أو الإفريقي الأمريكي كما سرى التعبير في التسعينيات من القرن الماضي لتجاوز تعابير قدحية من قبيل الزنجي Nigger/Nigroe .

كل الفئات التي هاجرت إلى أمريكا هاجرت بمحض اختيارها سوى الأسود، فهو لم يختر وإنما حُمل قسراً لكي يشتغل كما تشتغل الدواب، وفُرض عليه أن يتناسل كما تتناسل الدواب، ويفصل عن ذريته وزوجته حينما يباع أو تقتضي ضرورة اقتصادية ذلك. كانت عبودية السود أشد أنواع العبودية التي عرفتها البشرية لأنها لم تكن تعترف للإنسان الأسود بإنسانيته، وتعتبره في منطقة وسطى بين الإنسان والحيوان. ويكفي أن يقرأ المرء أدبيات تلك المرحلة ممَّا كتبه الأمريكيون ليقف على هول مأساة الإنسان الأسود. من تلك الأعمال الذائعة الصيت رواية توني موريسون "محبوبة" التي حازت بها على جائزة نوبل.

استطاعت الولايات المتحدة أن تستوعب كل المهاجرين وأن تُذوّبهم في أتونها سوى الإنسان الأسود، أو الإفريقي الأمريكي

حسن أوريد

يحمل الأسود ثُلمتين stigma؛ الثلمة الأولى مرتبطة بتاريخه لأنه لم يختر الهجرة ونُزع من إنسانيته، والثانية لونه، ولذلك حمل المتظاهرون شعار "حيوات السود تستحق " (black lives matter).

في سنة 1996 صدر كتاب، مر حينها مرور الكرام، لصامويل هانتنغتن "من نحن"، ينتقد فيه سياسة الهجرة المستوعبة، أو المفتوحة، التي من شأنها أن تضعف تجانس الولايات المتحدة، لأن المجتمعات السليمة حسب هانتنغتن هي تلك التي تحظى بانسجام إثني. عاد مضمون الكتاب مع انتخاب ترامب، وتبني إدارته التوجهات المتضمنة فيه.

اعتُبر تجاوز عدد المُلوّنين، حسب المصطلح المستعمل، في الانتخابات الرئاسية 2012 عدد البيض تحولاً سوسيولوجياً، وكان مدار حملة ترمب التركيز على الإنسان الأبيض ذي المرجعية المسيحية لأنه هو من أقام "حلم" أمريكا. كانت العنصرية خامدة كما الجذوة في الرماد.

قبل ست سنوات توفي الفتى إيريك كارنر Eric Garner، وكان يبيع السجائر في شوارع نيويورك، في ظروف مشابهة لمقتل لفلويد، وقد أحكم رجل أمن على رقبته حتى لفظ أنفاسه. توارت القضية حينها على خلاف قضية فلويد، لأن قضية فلويد انبنت على سياق ظهر فيه استهتار الإدارة الأمريكية في تدبيرها لأزمة كورونا، وضعف البنيات الصحية، وارتفاع حجم الضحايا وسط الشرائح الضعيفة، ومنها السود خاصة مع الإسبانيك، حيث بلغ المعدل ثلاثة أضعاف نسبة البيض، فضلاً عن البطالة، إذ بلغ حجمها رقماً قياسياً يناهز 40 مليون نسمة.

أشعل مقتل فلويد فتيل الغضب الكامن، وانبني على تواتر مآسي السود، وقد رأت فيه الصحافة في العالم العربي صورة لمحمد بوعزيزي الذي أشعلت وفاته غضب العالم العربي، مثلما قارنت الرئيس الأمريكي بصورة الدكتاتور العربي، ومنها صورة مركبة تذكر بحاكم ليبيا السابق القذافي وخطابه الشهير "زنقة زنقة"، مع بيان للرئيس الأمريكي "ستريت ستريت".

اللافت أن "عدوى" فلويد انتقلت إلى فرنسا، وأعادت مقتل الفتى أداما تراوري سنة 2016 في ظروف مشبوهة. لم يكن ذلك الفتى أول فتى يموت على يد الأمن الفرنسي، فقد أطلقت ضابطة أمن في مدينة تور النار على فتى أسود مصفد سنة 2015، وطويت القضية على اعتبار أن الضابطة كانت في دفاع شرعي. وفي سنة 2005 تسبب الأمن في مقتل شابين من السود، ممَّا أشعل غضب الضواحي في فرنسا في احتجاجات عارمة مع أعمال الشغب والتحريق، تعبيراً عن الغضب.

برزت ظاهرة يتم التستر عليها، هي ما ينعتها بعض المفكرين الموضوعيين براديكالية الأمن؛ أي الاستعمال المفرط للقوة ضد المحتجين، والمهاجرين. قبل أقل من شهر انتقدت فرنسية من أصول جزائرية في برنامج تلفزي في قناة فرنسية تعامل الأمن مع ذوي السحنات غير البيضاء، وما كان من وزير الداخلية الفرنسي كريستوف كاستانر إلا أن رد بتغريدة قوية يفند فيها ما اعتبره مزاعم باطلة للمواطنة الفرنسية من أصول جزائرية.

وفي ألمانيا أطلق عنصري النار في مقهى يرتاده الأتراك بمدينة هاناو Hanau في فبراير من هذه السنة وأردى تسعة أشخاص، مثلما تعرف غالبية دول أوروبا انتشار الإسلاموفوبيا التي هي أبشع مظاهر العنصرية، وتتأرجح من الرفض المستتر والحرمان من الشغل وكل سبل الادماج، أو التعرض مباشرة، من خلال العنف المادي والرمزي، إلى التعرض إلى رموز الإسلام ومقدساته باسم حرية التعبير.

في نهاية الخمسينات كتب فرانتس فانون وكان فرنسياً من أصول مريتينيكية كتاباً كان مرجعَ مضطهَدي العالم بعنوان "معذبو الأرض"، وكان ممَّا ورد فيه أن أوروبا التي تتحدث عن حقوق الإنسان تغتالها في كل منعرج. ما يزال هذا التحليل راهنياً، فالغرب الذي يتحدث عن حقوق الإنسان لا يتورع عن انتهاكها جهاراً. فأي سلطة معنوية يدفع بها للحديث عن حقوق الإنسان؟ 

جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عن TRT عربي. 

TRT عربي