تابعنا
تقول منظّمة الصحة العالمية إن 22 مستشفى من أصل 36 في غزة خرجت عن الخدمة، وأن المتبقّي منها لا يتوافر فيه المستلزمات الطبية لمواصلة العمليات الجراحية الحرجة وتوفير العناية المركزة، ويرتفع هذا العدد مع استمرار العدوان.

أخلت قوات الاحتلال مستشفى الشّفاء بالقوة القسريّة من الأطباء والجرحى والمُقعدين تحت تهديد فوهات البنادق والدبابات، فيما يعدُّ جريمة حرب، وجريمة بحق الإنسانية تجري أمام مرأى ومسمع العالم "المتحضّر"، ومن دون أن تتمكن المنظمات الإنسانية -بما فيها الأونروا ومنظمة الصحة العالمية- من وقف هذا الإجراء.

يأتي ذلك ضمن حملة شرسة على المستشفيات في قطاع غزّة شنّها الاحتلال متذرّعاً بأنها "تضم في أسفلها مراكزَ قيادة لحماس وأنفاقاً هجومية" يستخدمها المقاومون لمهاجمة قوات الاحتلال.

وارتكب الاحتلال مجزرة في 17 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، حين قصف المستشفى المعمداني، أسفر عن استشهاد أكثر من 500 فلسطيني، بينهم نازحون ومرضى يتلقّون العلاج في المستشفى، وأدى لإخراج المستشفى عن العمل، وتصاعد الاستهداف المكثف للمستشفيات بعد الاجتياح البري الذي بدأ قبل أكثر من ثلاثة أسابيع.

حرب ضروس ورواية فاشلة

تقول منظّمة الصحة العالمية إن 22 مستشفى من أصل 36 في غزة خرجت عن الخدمة، وأن المتبقّي منها لا يتوافر فيه المستلزمات الطبية لمواصلة العمليات الجراحية الحرجة وتوفير العناية المركزة، ويرتفع هذا العدد مع استمرار العدوان.

ومنذ بداية العدوان، يركّز الاحتلال على مستشفى الشفاء، لكنه استهدف أيضاً مستشفى الرنتيسي والمستشفى الإندونيسي ومستشفى القدس، ضمن نطاق عمليات قوّاته التي تتركز حالياً في شمال قطاع غزة، حتى مستشفى الوفاء للمسنّين لم يسلم بدوره من القصف.

ويشمل العدوان قصفاً متواصلاً على المستشفيات واحتلالَ أجزاء منها أو كلها كما حصل في الشفاء، فضلاً عن محاصرتها ومنع الدواء والوقود عنها.

وإذا أدركنا أن سكان غزة يستفيدون بمعدل 1.59 مستشفى لكل 100 ألف نسمة، فإن هذا يشير إلى حجم مأساة الفلسطينيين المحرومين من الرعاية الصحية، وخصوصاً مع تواصل آلة القتل الإسرائيلية التي راح ضحيتها شهداء يقدّر عددهم اليوم (20 نوفمبر/تشرين الثاني) بما لا يقلّ عن 13 ألفاً إضافة إلى عشرات الآلاف من الجرحى.

ويبرّر الاحتلال الاستهداف المكثف للمستشفيات وخصوصاً مستشفى الشفاء بوجود "بُنية عسكرية وأنفاق لحركة حماس تحتها"، واقتحم مستشفى الرنتيسي للأطفال مبرراً ذلك بمزاعم عن وجود قبو تحت المستشفى، ليقدّم في الأخير رواية متضاربة تقول إن القبو يبعد 200 متر عن المستشفى!

كما بثّ صوراً تظهر قائمة أيام الأسبوع مكتوبة بالعربية مدعياً أنها أسماء "الإرهابيين" والحرّاس باللغة العربية، وهي الرواية التي فنّدها المستشفى بالتأكيد على أن الجدول المعروض هو لمناوبات الأطباء، بينما فنّدت حماس وغيرها قصة 4 قطع من رشّاش كلاشينكوف يتيمة يبدو أن الاحتلال أحضرها لاستكمال رواية هزيلة عن استخدام المستشفى من حماس.

وفي منتصف شهر نوفمبر/تشرين الثاني، بدأ الاحتلال عملية اقتحام واسعة لمستشفى الشفاء انتهت بإخراج المرضى واللاجئين منه ومن ساحاته، ولم يكتفِ باستعراض القوة العسكرية واحتلاله بالدبابات، بل تسبّب في تحطيم الأجهزة الطبية وقطع الكهرباء وإخراج حاضنات الأطفال الخدّج عن عملها، ما أدى لوفاة عدد منهم ومن الجرحى، ليخرج بعدها برواية أكثر هشاشة من رواية مستشفى الرنتيسي.

وقال الناطق باسمه في مؤتمر صحفي إنهم "وجدوا أسلحة ومواد استخباراتية في مستشفى الشفاء"، لا يُعلم من أين أتى بها، كما عرض أقراصاً مدمجة كـ"أدلة" فتبيَّن لاحقا أنها تُستخدم لتخزين صور جهاز الرنين المغناطيسي، وهو إجراء معمول به في مستشفيات العالم كافة!

سقوط الأكاذيب

وفضح مغرّدون ووكالات أنباء حذف الاحتلال لمقطع من فيديو عرضه على جهاز كمبيوتر محمول زعم العثور عليه في المستشفى، بعد أن اكتشف أنه عرض لقطة لمحتجزة إسرائيلية قال إنه سبق وحررها من أيدي حماس.

غير أنّ الأهم في هذه الروايات أن الاحتلال لم يتمكن حتى اللحظة من تأكيد استخدام حماس للمستشفيات -وعلى الأخص الشفاء- كمقرات قيادة أو احتجاز رهائن في أنفاق تحتها، وهي الدعاية التي ما زال الاحتلال يروّجها لتبرير اقتحامه المستشفيات وترويع الآمنين فيها، وكان ذلك سبباً لتعرّضه لسخرية وانتقادات المتابعين سواء من المواطنين العاديين أم من الصحفيين الغربيين والعرب.

ولكن الأهم من كل هذا، هو أن روايات الاحتلال سقطت حتى لدى إعلامه الذي يسوّق له، فهذا هو المراسل العسكري لموقع "والا" أمير بوخبوط يعلّق قائلاً: "لم نجد ما اعتقدنا أنه موجود؛ الانطباع السائد هو أنه كلما بحثت الاستخبارات عن مراكز القوة لدى حماس تُفاجَأ في كل مرة".

أما الكاتب ليران ليفي فقال: "أين الموقع الأسطوري الذي صوَّروه لنا قبل الاقتحام؟ أين مقرّات القيادة ومخازن المعدات وكل ما تحدّثوا عنه، أتمنى أن يُثبتوا أن هذا الاقتحام يستحقّ كل هذا الهجوم العالمي بعدَ هذه النتائج السيّئة جداً".

بينما شنّت الكاتبة ماري يودا هجوماً عنيفاً على جيش الاحتلال، وقالت: "يبصق العالم عليكم بعد أن وقعتم في فخّ حماس"، كما سخر الكاتب شلومو بن عزري من الجيش قائلاً: "هل هذا هدفكم بعد 40 يوماً من الحرب؟! ادعيتم طوال الوقت أن هناك مقرّاً سرياً لحماس تحت المستشفى تحتجز فيه الأسرى، يا للعار".

فشل عسكري هدفه التهجير القسريّ

بدعم كامل من الولايات المتحدة، يواصل الاحتلال تقديم الروايات الكاذبة، ورغم الاعتراض الدولي، يحاول إثبات أنه لا يوجد مكان لن يصل إليه، ولو كان مستشفيات مدنيّة لا علاقة لها بكل ما يدّعي قادته! بمعنى آخر كل اهتمام الاحتلال أن يخرج بصورة نصر موهوم يرسم صورة وهميّة عن تمكّنه من احتلال معالم رئيسة في شمال غزة، وتأكيد إكمال السيطرة العسكرية عليها.

يعبّر ذلك في الحقيقة عن فشل الاحتلال أمام المقاومة في الميدان العسكري، ما اضطره للانتقام من المدنيين محاولاً تقديم صورة انتصار زائف داخل أهم مستشفى في قطاع غزة.

وسوف يسعى بعد إفراغه من المرضى والطاقم الطبي واللاجئين الذين يُعدّون بالآلاف، إلى محاولة تهيئته مسرحاً لرواية مفبركة جديدة عن تَمترُس المقاومة داخله، وهذه سيستغرق على الأغلب أياماً لإعداد "الديكور".

سيشكّل المستشفى الذي يتجاوز عمرُه عمُر الاحتلال، وتبلغ مساحته 42 ألف قدم، قاعدة عسكرية كبيرة جديدة للاحتلال في عمق غزة لتشكيل صورة نصر مزعوم، تغطّي على الفشل الميداني أمام المقاومة.

ويعتبر هذا الإجراء القسري جزءاً من مخطط تهجير الفلسطينيين من غزة، إذ فُتح "الممر الآمن" لتهجير الفلسطينيين إلى جنوب غزة تحديداً.

ورفَض العديد من الفلسطينيين التوجه إلى الجنوب مفضّلين الموت على أرضهم وفي منازلهم، ما يعني فشل مخطط التهجير أمام شعب متمسّك بوطنه ومتجذِّر بأرضه.

ومقابل فشل الاحتلال في تقديم صورة نصر عسكري، عرَضت المقاومة فيديوهات كثيرة تثبت إيقاع خسائر فادحة بآليات الاحتلال وجنوده من خلال حرب العصابات التي تشنّها، فضلاً عن استمرار إطلاق الصواريخ من غزة، ما يؤكّد عدم تمكن الاحتلال من إلحاق أضرار كبيرة ببنيتها العسكرية.

وهو ما يفسّر تركيز الاحتلال على البنية المدنيّة، للتغطية على صورة آليات ودبابات الاحتلال المدمّرة، والخسائر البشرية الفادحة التي يتكبدها في غزة.

الوقت يضغط

تأتي الهجمة على المستشفيات في وقت بدأ الوقت ينفد أمام الاحتلال لتحقيق الإنجاز الذي وعَد به جمهوره بإنهاء حماس وإعادة الأسرى من غزة.

واشنطن التي تدعمه بكل قوة تريد أنْ ينجز المهمة بسرعة، ولكنّها أمام التململ الغربي وأمام مجازر الاحتلال، تتخوف من انفكاك الدعم الغربي للحرب، وتتحسّب لاحتمال توسّعها إلى حرب إقليمية، وتضغط على حكومة نتنياهو لإنجاز المهمة خلال أسابيع قليلة.

كما تضغط واشنطن لإنجاز صفقة تبادل للمدنيين مع هدن إنسانية مؤقتة لأيّام، عطّلتها خلافات في الحكومة المتشدّدة، وقد تتيح هذه الهدن الفرصة لمفاوضات أوسع لصفقة شاملة تشمل جميع الأسرى لدى الاحتلال مقابل أسرى المقاومة.

تفضح هذه الممارسات التي تشكل سابقة تاريخية في العصر الحديث زيف حديث الغرب الذي دعَم إسرائيل، وسكت عن جرائمها، وازدواجية المعايير في التفاعل مع الحروب مثلاً مع حالتي أوكرانيا وفلسطين، كما تفضح السقوط الأخلاقي وأكاذيب إسرائيل.

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً