تابعنا
بعثت الولايات المتحدة برسالة قوية إلى السلطات الإيرانية باغتيال قائد فيلق القدس قاسم سليماني، الأمر الذي يفتح الباب أمام الكثير من احتمالات التصعيد.

بعد تسلمه السلطة في أمريكا، طالب الرئيس الأمريكي إيران بالجلوس إلى طاولة المفاوضات لتعديل بعض بنود الاتفاق النووي، لكن النظام الإيراني رفض الدعوة الأمريكية وخُيل له نتيجة غض الطرف من قبل إدارة أوباما عن نشاطه في العراق وسوريا ولبنان أنه يتمتع بفائض من القوة في المنطقة وأن أمريكا لا يمكنها أن تحدّ من هذا النفوذ.

بعد ذلك خرجت الولايات المتحدة من الاتفاق النووي ولجأت إلى ممارسة سياسة الحد الأقصى من الضغط ومحاولة تصفير صادرات النفط لإجبار طهران على الخضوع لمطالبها. فيما بعد أعلن الوزير بومبيو عن شروطه الاثني عشر للتفاوض مع إيران، وكان من المتوقع ألا تستجيب إيران لها فمن شأن الاستجابة لها أن تغير طبيعة النظام.

لقد كان للعقوبات الأمريكية وقع كبير على النظام الإيراني، فقد حرمته من مليار دولار من عائدات النفط أسبوعياً، ما دعا الرئيس روحاني للتصريح بأن بلاده تواجه حرباً اقتصادية. ونتيجة هذه الحرب الاقتصادية، لجأت إيران إلى التصعيد في المنطقة عبر أذرعها، فبعد أن هدد المسؤولون الإيرانيون بإغلاق مضيق هرمز وعدم السماح بتصدير نفط المنطقة طالما لم يصدَّر النفط الإيراني، تعرضت حاملات نفط إماراتية وسعودية ونرويجية في الخليج في مايو/أيار الماضي لهجمات -تشير جميع المؤشرات إلى أنها إيرانية- هدفها اختبار ردة الفعل الأمريكية.

ولم تمضِ أيام بعد ذلك حتى أسقطت إيران طائرة أمريكية مسيرة فوق المياه الدولية في الخليج بذريعة دخولها الأجواء الإيرانية. تبعها بعد ذلك بشهور تعرُّض منشأة أرامكو السعودية في سبتمبر/أيلول الماضي لهجمات بطائرات مسيرة اتهمت إيران بالضلوع فيها.

إن عدم إبداء الإدارة الأمريكية أي إجراء عملي رداً على هذه الهجمات جعل النظام الإيراني يعتقد أن الرئيس ترمب لن يخوض عملاً عسكرياً ضده، لا سيما أنه مقبل على انتخابات رئاسية في نهاية 2020 ويمكن لأي عمل عسكري أن يقوض من فرصه بالفوز بولاية ثانية. هذه القناعة زادت من جرأة النظام الإيراني على استخدام نفوذه للتصعيد ضد أمريكا وحلفائها الإقليميين من دون الخشية من المحاسبة.

وعلى الرغم من مرور حوالي ثلاثة أشهر على المظاهرات العراقية ضد الطبقة السياسية الحاكمة والتدخل الإيراني في شؤون البلاد، وما صاحبها من إحراق للقنصلية الإيرانية في كل من النجف وكربلاء وكذلك لمقرات الأحزاب والجماعات المحسوبة على إيران، ورفض الشارع العراقي للمرشحين المقربين من الحرس الثوري، لم يتقبل النظام الإيراني فكرة أن أكثرية شيعة العراق خرجت عن عباءته ولم تعد تقبل فكرة تدخله في شؤونها، بل قاد سليماني عمليات قمع المتظاهرين التي أودت بحياة المئات من القتلى في الشهور الثلاثة الماضية، وأصر على التدخل في تعيين رئيس للوزراء.

ونتيجة الضغط الذي تعرضت له إيران في العراق إبان المظاهرات وكذلك بعد حوالي شهر ونصف من الاحتجاجات التي شهدتها المدن الإيرانية التي تعاملت معها السلطات بعنف منقطع النظير وأسفرت حسب تقرير لوكالة رويترز عن مقتل 1500 من المحتجين في غضون أيام قليلة، إضافة إلى ما يبدو أنه فشل لمساعي اليابان وعُمان في إقناع إيران بالجلوس إلى طاولة المفاوضات مع أمريكا. بعد ذلك كله لجأت إيران في الأسابيع الأخيرة إلى رفع وتيرة استهداف المواقع الأمريكية في العراق، فاستهدفت عبر أذرعها بعض المواقع الأمريكية أكثر من عشر مرات، إلا أن أياً من تلك الهجمات لم يسفر عن وقوع ضحايا، وبدا واضحاً أن إيران ستزيد من تصعيدها ضد أمريكا في العراق.

وفي يوم الجمعة 27 ديسمبر/كانون الأول استهدفت كتائب حزب الله العراقي قاعدة عسكرية أمريكية شمال كركوك بهجمات صاروخية أسفرت عن مقتل أمريكي وإصابة عدة جنود بجروح، ونفت إيران بطبيعة الحال أي علاقة لها بالحادثة، على الرغم من تأكد الجميع من أن الكتائب لا يمكن أن تقدم على عمل من هذا النوع من دون توجيه من طهران.

وكان هدف إيران من ذلك يتمحور حول حرف الأنظار عن المظاهرات المطالِبة بإنهاء التدخل الإيراني في شؤون العراق. واستجرار أمريكا للرد عليها وإثارة الرأي العام ضدها والدفع لاستصدار تشريع في البرلمان يطالب بخروج قواتها من العراق باعتبارها تنتهك السيادة العراقية.

وأخيراً إعادة تنصيب أنصارها في السلطة في الانتخابات المقبلة باعتبارهم المدافعين عن العراق ضد التدخل الأمريكي بعد أن رفضهم الشارع. بالإضافة إلى تليين الموقف الأمريكي والحصول على موافقة الإدارة الأمريكيةبالسماح لها ببيع مقدار من النفط تضمن به القدرة على تسيير شؤون البلاد بعد أن رُفض هذا الطلب حتى الآن.

الخط الأحمر الأمريكي

تعتبر الإدارة الأمريكية سقوط ضحايا أمريكيين واقتحام سفارتها خطاً أحمر لا يمكن غض الطرف عنه، بعد أن تلكأت وتراجعت كثيراً إزاء الاستفزازات الإيرانية. إن مقتل مواطن أمريكي في الهجمات الأخيرة واقتحام السفارة الأمريكية في بغداد أجبر إدارة ترمب على التخلي عن سياسة ضبط النفس التي اتبعتها الولايات المتحدة لعدة شهور، فقامت باستهداف سليماني بعد أن قصفت قبل أيام مواقع كتائب حزب الله العراقي في المنطقة الحدودية بين سوريا والعراق.

لا شك أن إدارة ترمب لم تكن ترغب في الرد على التصعيد الإيراني، لكن يبدو أنها حصلت على معلومات بأن قاسم سليماني وقادة الحشد الشعبي بصدد القيام بعملية تستهدف المصالح الأمريكية رداً على قصف مقرات كتائب حزب الله، وقررت أن تستبق الرد الإيراني الذي قد يتسبب في خسائر غير مقبولة من وجهة النظر الأمريكية.

وجدت الإدارة الأمريكية نفسها مضطرة للقيام بذلك على الرغم من معرفتها بتداعيات العملية، ورأت أن الأضرار المترتبة على عدم الرد تفوق تلك الناجمة عن الرد، إذ إن عدم الرد سيزيد من جرأة إيران ومليشياتها على استهداف المواقع الأمريكية. ملخص الرسالة الأمريكية لإيران هو أن استهداف القواعد العسكرية الأمريكية قتل مواطنين أمريكيين والاعتداء على السفارة الأمريكية ليس حدثاً عابراً يمكن التغاضي عنه من قبل إدارة ترمب.

هل اقتربت المواجهة المباشرة بين أمريكا وإيران؟

من المؤكد أن أمريكا وإيران لا تسعيان إلى حرب واسعة ومباشرة. ولا شك أن الإدارة الأمريكية ليست بصدد القيام بعمل عسكري ضد إيران في الوقت الحالي على الرغم من اغتيال سليماني وبعض زعماء الحشد الشعبي وقصف مواقع الكتائب المحسوبة على إيران.

لكن ما حدث ليس أمراً بسيطاً يستطيع النظام الإيراني الصمت عنه أو الاكتفاء بمجرد التصريحات. يدور الحديث في طهران عن الثأر والانتقام، والكرة الآن في ملعب النظام الإيراني الذي يعيش في وضع لا يحسد عليه، فمن جهة يرى أن عليه الرد حفاظاً على صورته أمام أنصاره، لكنه يخشى من تبعات رده وإثارة غضب الإدارة الأمريكية أكثر وأكثر.

أمس اجتمع مجلس الأمن القومي الإيراني بمشاركة الخامنئي لاتخاذ قرار بخصوص الرد. لا يتوقع أن يُعلَن عن مخرجات هذا الاجتماع وقد لا يكون الرد الإيراني مباشراً، لكن إن قررت إيران الرد فأمامها عدد من الأهداف المحتملة من بينها التصعيد في العراق، وخلق بيئة غير آمنة للقوات الأمريكية في العراق، والهجوم على منشآت النفط السعودية والإماراتية، والتسبب بقلاقل للقوات الأمريكية في سوريا لا سيما في التنف.

ربما يتمثل الرد أيضاً بالتخلي عن الالتزامات في الاتفاق النووي في الأسبوع القادم، ومحاولة اختطاف دبلوماسيين وجنود أمريكيين في المنطقة.

لن يتسرع النظام الإيراني في الرد لأن أي رد تعتبره الإدارة الأمريكية قاسياً قد يؤدي إلى استهداف مواقع النفط الإيرانية وضرب المنشآت النووية، ما يعني حرباً شاملة لا مصلحة للطرفين بحدوثها.

إن مستوى الرد الإيراني وحجمه سيحدد مجريات الأحداث في المستقبل وسيبين إن كنا مقبلين على حرب بين الطرفين وهذا احتمال مستبعد حتى الآن، أم أن النظام الإيراني سيستوعب أخيراً الرسالة ويدرك الظروف المحيطة ويلجأ إلى العقل وينكفئ إلى داخل حدود بلاده ويتصالح مع جيرانه ويهتم بمواطنيه ويتحول إلى دولة عادية، وهذا الأمر يبدو مستبعداً أيضاً في الوقت الحالي.

الخيار الثالث أن يتراجع خامنئي عن سياسته المعلنة: لا حرب، ولا مفاوضات، فتجلس إيران إلى طاولة المفاوضات وتماطل فيها من دون تقديم تنازلات جوهرية إلى نهاية السنة الحالية والانتخابات الأمريكية المقبلة.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِّر بالضرورة عنTRTعربي.

TRT عربي