أحد مناجم البوتاس التابعة للعملاق البيلاروسي بيلاروسكالي. (Others)
تابعنا

يبدو أن التوتر على الحدود الشرقية لأوكرانيا لن يقتصر على الصراع العسكري، بل هو بصدد جرّ المنطقة والعالم أجمع إلى صراع جيوسياسي مركزه أوروبا الشرقية، يكون اللاعب الأبرز فيه خام البوتاس البيلاروسي الذي تسعى ليتوانيا لحظر مروره عبر أراضيها بطلب من واشنطن، وذلك لضرب عصب الاقتصاد البيلاروسي وتضيق الخناق على رئيس البلاد الأوتوقراطي ألكسندر لوكاشينكو.

لكن ما يجهله البعض أن معاقبة الزعيم الاستبدادي بهذا الشكل، ستصبّ بمصلحة روسيا في النهاية وستجعلها المتحكم الوحيد بخام البوتاس في المنطقة، وهو ما سينعكس مباشرةً على الزراعة والأمن الغذائي في أوروبا والعالم ككل، لأن البوتاس مادة أساسية تستخدم لإنتاج الأسمدة الزراعية التي تغذي المحاصيل الزراعية.

وحسب مقال كتبه أندرو هيغينز ونشرته صحيفة New York Times الأمريكية نهاية الشهر الماضي، ستوقف ليتوانيا اعتباراً من بداية فبراير/شباط الجاري عبور القطارات المحمَّلة بالبوتاس البيلاروسي، أكبر مصدر نقدي لحكومة لوكاشينكو، وستمنع وصولها إلى ميناء كلايبيدا في ليتوانيا الذي يُستخدم في تصدير هذا الخام إلى أوروبا وخارجها.

البوتاس شريان الحياة

على مر العقدين الماضيين توغلت قطارات الشحن الطويلة المحملة بالحصى البني المحمرّ في ميناء ليتوانيا الرئيسي على بحر البلطيق، وكانت بمثابة شريان الحياة الاقتصادي لألكسندرلوكاشينكو، الرئيس الأوتوقراطي للجارة بيلاروسيا.

وبقدر الربح المادي الذي حققته الحكومة البيلاروسية، كسبت السكك الحديدية الليتوانية المملوكة للدولة وميناء كلايبيدا جزءاً كبيراً من عائداتها من البوتاس، مما أثار كثيراً من الجدل داخل الأوساط السياسية والاقتصادية في ليتوانيا حول ما يجب فعله حيال القيود التجارية التي طالبت الولايات المتحدة بفرضها على لوكاشينكو، لدرجة أن الحكومة عرضت في ديسمبر/كانون الأول الماضي الاستقالة بشأن هذه القضية، قبل أن تقرر قطع الطريق على الصادرات البيلاروسية ابتداءً من الشهر الجاري.

وتُعتبر شركة بيلاروسكالي المملوكة للدولة والمختصة بصناعة الأسمدة من خام البوتاس بمثابة بقرة حلوب مربحة لحكومة لوكاشينكو، كيف لا وهي أكبر دافعي الضرائب وأكبر مصدّر في بيلاروسيا، إلى جانب سيطرتها على نحو 20% من إمدادات البوتاس العالمية.

روسيا تحتكر سلعة مهمة

من ضمن العقوبات التي فرضتها قوى غربية على بيلاروسيا في رد منسق على مينسك التي أجبرت طائرة كانت تُقِلّ الصحفي المعارض ريان إير، للهبوط اضطرارياً منتصف العام الماضي من أجل اعتقاله، كانت العقوبات التي حظرت واردات البوتاس من بيلاروسيا، وهو الأمر الذي لم يزد أسعار البوتاس وحسب، بل وجهته باتجاه موسكو ليكون من المواد والسلع التي تحتكر روسيا توريدها بجانب النفط والغاز والحبوب.

فبيما أشاد معارضو لوكاشينكو بهذه الخطوة، كان آخرون قلقين من عواقب غير مقصودة؛ إنها تفيد روسيا، المتوقَّع أن تتولى نقل البوتاس البيلاروسي والممكن أن تسيطر على جزء كبير من الإمداد العالمي بالسلعة "الغامضة الحاسمة" التي لا غنى عنها في تحقيق أمن الغذاء العالمي.

وفي حين ستخسر ليتوانيا مئات ملايين الدولارات من وقف صادرات بيلاروسيا عبر كلايبيدا، ها هي ذي روسيا تحقّق إحدى خططها الاستراتيجية التي كانت تضغط منذ سنوات لتفعيلها من خلال فرض سيطرتها على شركة بيلاروسكالي، جوهرة التاج لقاعدة لوكاشينكو الصناعية المتداعية. لكن المكاسب الروسية تتجاوز مجرد السعر، إذ بات بإمكان موسكو التي تحتكر جزءاً كبيراً من خام البوتاس الحصول على ميزات اقتصادية كبيرة، فضلاً عن القدرة الكبيرة على التحكم في أسعار الموادّ الغذائية.

دور البوتاس في الصراع الجيوسياسي

منذ أن طلب لوكاشينكو المساعدة من الكرملين لإخماد احتجاجات الشوارع الضخمة التي أطلقتها الانتخابات الرئاسية في أغسطس/آب 2020، فقد بشكل مطرد قدرته على مقاومة المطالب الروسية، فيما تستعدّ موسكو لإحكام سيطرتها على شركة بيلاروسكالي من خلال طرح السكك الحديدية والمواني الروسية كبديل وحيد لبيع منتجاتها في الخارج.

ومن شأن هذه الحركة الاستراتيجية أن تعطي موسكو نفوذاً قوياً على سوق البوتاس العالمية، ويضعها في وضع يمكّنها من استخدام البوتاس بالطريقة نفسها التي تستخدم بها سيطرتها على الاحتياطيات الضخمة من الغاز الطبيعي لتحريف السوق والضغط على الدول الأوروبية.

وبسيطرة روسيا على عملاق البوتاس البيلاروسي تكون موسكو أحكمت سيطرتها على أكثر من 40% من إمدادات البوتاس العالمية، وهو ما لا يجعل منها مجرد لاعب قوي في سوق البوتاس وحسب، بل لاعباً مؤثراً يتحكم في إمدادات الغذاء في جميع أنحاء العالم.

TRT عربي
الأكثر تداولاً