تابعنا
في مجتمعاتٍ تحمي الجلّاد وتعاقب الضحية، لا تقتصر معاناة النساء على تعرّضهن للتحرّش الجنسي، بل تمتدّ لتشمل اضطرارهنّ إلى تحمّل مسؤولية التحرّش والاعتداء الذي يتعرّضن له.

عندما كانت ابتسام في الثالثة عشرة من عمرها، تعرَّضت لأول مرة في حياتِها للتحرش الجنسي. كانت تمشي في طريقها من المدرسة نحوَ البيت حاملةً محفظتَها على ظهرِها وأحلامَها في رأسِها. لم يشفعْ لها الحجابُ الذي ارتدته في سنّ العاشرة ولا الملابس الطويلة التي تغطِّي كل جسدِها. طاردَها الرجل/المتحرش طيلةَ الطريق متفوِّهاً بألفاظ بذيئة لم تستطِع ابتسام أن تذكُرَها وهي تحكي عن واقعةِ التحرش لأمها.

ومنذُ تلكَ الحادثة، تقول ابتسام المصرية البالغة من العمر اليوم 31 عاماً، لم يتوقَّف تعرُّضها للتحرش في شوارع القاهرة، ولم يتوقَّف قلقُ أهلِها ومراقبتُهم الدائمة للباسها وتصرفاتِها أيضاً.

قصةُ ابتسام تشبه حكاياتِ نساء كثيرات في مجتمعات الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. فبالإضافة إلى كونهنّ ضحايا تحرّش، هنّ أيضاً في نظر المجتمع الجلّادات.

"لباس المرأة هو السبب!"

يربط كثيرون بين التحرّش الجنسي والاغتصاب ولباس المرأة، مبرّرين هذه الجرائم بنوعية اللباس الذي كانت ترتديه الضحية قبل وقوع التحرّش وأثناءه أو الاغتصاب. وبهذا المنطق، تصبح الضحية بالنسبة إليهم، هي المجرم الحقيقي، لأنها فتنت الرجل وجعلته يُقدِم على ارتكاب الجريمة!

لكنْ، هل لباس المرأة فعلاً هو السبب؟

إلقاء نظرةٍ على البلدان المتقدمة ووضع النساء فيها يبيّن بشكلٍ واضح أنّه لا علاقةَ بين لباس المرأة وبين التحرّش الجنسيّ وجرائم الاغتصاب. فنِسبُ التحرّش الجنسيّ في هذه البلدان أقلّ بكثير من نظيرتها في البلدان العربية والإسلامية، حيثُ تغطي النساء أجسادهن وترتدين ملابس أكثر "حشمة".

اقرأ أيضاً:

ففي مصر مثلاً، وصلت نسبة التحرّش الجنسي عام 2013 إلى 99.3%، حسب أرقام منظمة الأمم المتحدة، ووصفت هذه الأخيرة العاصمة المصرية بكونها "أخطر مدن العالم العملاقة بالنسبة إلى النساء، والمركز الثالث في العنف الجنسيّ".

وفي عام 2017، قالت الأمم المتحدة في دراسةٍ لها إنّ "نصف الرجال ونصف النساء في مصر يلومون الضحية على حادث التحرّش".

في حين أن استطلاعاً للرأي أُجري في ألمانيا عام 2017، كشف أنّ 43% من النساء تعرّضن للتحرش الجنسي مرّةً واحدة على الأقلّ في حياتهنّ، مقابل 12% من الرجال.

واعترف 18% من الرجال، حسب الاستطلاع نفسه، أنّهم تصرّفوا بطريقةٍ "قد تجعل الطرف الآخر يشعر بأنه تُحُرِّش به جنسياً".

في هذا السياق، يقول عبد الرحيم العطري، متخصص في علم الاجتماع لـTRT عربي، إنّ "تبرير التحرّش بالنساء بلباسهنّ غير المحتشم هو تبريرٌ واهٍ، لأنّ الواقع يبيّن لنا أن التحرّش يمسّ حتى التي ترتدي الحجاب والمرأةَ الحامل والتي تجرّ عربة طفلِها، ما يعني أنّ النساء جميعهنّ لسن في مأمنٍ اليوم في مجتمعاتٍ تعيش أقسى درجات الاحتباس والبؤس القيمي في ظلّ مجتمعات فرّطت في بوصلتها التربوية والتنموية".

لماذا تقع اللائمة على النساء إذن؟

انتشر على نطاق واسع مقطع فيديو لفتاة سعودية تُدعى غدي عيد الأحمدي، تحكي فيه عن معاناتها من التحرّش الجنسيّ، وتتهم فيه أخاها باغتصابها لمدة ست سنوات، عندما كانت بين التاسعة والخامسة عشرة من عمرها.

تحكي غدي في مقطع الفيديو نفسِه أنها اشتكت لأسرتها مراراً من تصرّف أخيها معها، من دون أن تتلقّى أيّ ردّ فعلٍ منهم إزاء الحادثة، بخاصة بعدما أنكر أخوها فعلته. لذلك، لم تجد سوى مواقع التواصل الاجتماعي ملاذاً للكشف عن معاناتها، حسب قولِها.

ومع ذلك، لم تسلم غدي أيضاً من التعليقات التي تلقي اللوم عليها، وتعتبر لباسها السببَ في تعرّضها للتحرّش والاغتصاب.

تشرح سناء العاجي، كاتبة مغربية ومتخصصة في علم الاجتماع، أن "اللومَ في قضايا التحرّش والاغتصاب يقع دائماً على النساء، لأنّ العقلية الذكورية تسعى باستمرار لحماية الرجل، وحين نتحدّث عن العقلية الذكورية، فهي لا تتعلّق بالذكور وحدَهم، بل تمسّ حتى الإناث".

اقرأ أيضاً:

وتضيف العاجي في حديثها لـTRT عربي أنه "عملياً، في كل جنحة أو جناية، يوجد مسؤول، وهذا المسؤول هو الفاعل وليس الضحية. لا أحد سيبرّر فعل السارق أو القاتل إلا في حالاتٍ شاذة. إذا خرج شخصٌ لعمله أو لأداء صلاة الفجر في ساعةٍ مبكرة من الصباح وتعرّض للسرقة، فهل سنعتبره مسؤولاً لأنه كان يوجد في الشارع في ساعةٍ مبكّرة جداً؟ هذا منطقٌ ستقبله الأغلبية، لكنّها لن تطبقه على الاغتصاب والتحرّش والعنف الممارس ضدّ النساء. ففي هذه الحالات حصرياً، تصبح الضحية مسؤولةً بسبب لباسها وخروجها ووجودها في الشارع العام!".

"خروج المرأة إلى الشارع عملٌ هجوميّ"

لا يُبرَّر التحرّش الجنسي بلباس المرأة فقط، بل أيضاً في وجودها في الشارع في حدّ ذاته، باعتبار الشارع في المجتمعات العربية كان إلى وقتٍ قريب مجالاً خاصاً بالرجال. ففي المغرب مثلاً، كان خروج المرأة من المجال المنزليّ "ظاهرةً تحدث في مناسباتٍ نادرة"، كما وصفته عالمة الاجتماع المغربية فاطمة المرنيسي، مثل زيارة قبور الأولياء، والذهاب إلى الحمام، أو زيارة العائلة في مناسبات كالولادة أو الزواج أو الوفاة.

في كتابها: "ما وراء الحجاب" الذي صدر عام 1973، تفسّر فاطمة المرنيسي المضايقة التي تتعرّض لها النساء في الشوارع بكونِ المرأة، في الذهنية الجمعية، "اقتحمت مكاناً خاصاً بالرجال"، "ويُعتبر هذا الحضور في المجال المخصص للرجال في حدّ ذاته تحرّشاً وإهانة.. لذلك فإن التحديث بالضرورة يعرّض عديداً من النساء لمضايقات".

وتوضّح المرنيسي: "إن المرأة دائماً دخيلة في مكان يمتلكه الرجال، بما أنها تُعرَّف كعدوّ، وليس لها الحقّ في استعمال مكان مخصّص للجنس الآخر، والواقع أن مجرّد وجودها في مكان لا يجب أن تكون فيه، يشكّل عملاً هجومياً بما أنها تزعزع النظام الاجتماعي، وتقلق راحة فكر الرجل.. ويكون الوضع أخطر إذا كانت المرأة سافرة".

وبذلك، تتحوّل المضايقة التي يمارسها الرجال على النساء في الشارع، حسب الكاتبة، "ردّاً على هجومها الفاضح حسب الأيديولوجيا السائدة، وذلك يعني مطاردة المرأة خلال ساعات، ولمسها إذا سنحت الفرصة لذلك، وأخيراً الاعتداء عليها قولاً".

ما السبيل إلى التخلّص من ظاهرة إلقاء اللوم على النساء؟

لجأ العديد من البلدان العربية لإلغاء ظاهرة التحرّش الجنسيّ وجرائم الاغتصاب إلى قوانين زجرية لردع المغتصبين والمتحرّشين، لكنّ ذلك لم يكن كافياً لردعهم ووقف هذا النزيف الذي امتدّ من الشارع والأماكن العمومية ليكتسح أيضاً العالم الرقمي والإلكتروني.

في هذا السياق، يقترح عبد الرحيم العطري أنّ العمل في هذا الصدد "ينبغي أن يتجه إلى الذهنيات، وإلى إلغاء المجتمع الأبوي والذكوري، وتأسيس مجتمع العدالة والمساواة بين الجنسين".

ويوضّح العطري في حديثه لـTRT عربي أنّ "التحرّش والاعتداء على النساء هو عطبٌ سوسيوثقافي، وواقعةٌ مركّبة تتداخل فيها عناصر التربية وسوء الأحوال الاجتماعية والاحتباس القيمي، ما يجعل حلّ هذه الظواهر مركّباً أيضاً، ويستدعي معالجةً لكلّ هذه الجوانب".

مجهودٌ مزدوَج للعيش بكرامة

تصف الشابة المصرية ابتسام المجهودَ الذي تقوم به لتعيش بكرامة في ظلّ المضايقات التي تتعرّض لها يومياً في الشارع، بـ"المجهود المزدوج"، "ففي حين يتعيّن عليّ التفكير في عملي وفي حياتي ومستقبلي، أجد نفسي مضطرّة إلى تحمّل التحرّش أيضاً ومقاومته"، تقول لـTRT عربي، مضيفة: "إنّه نضالٌ يوميّ لإثبات إنسانيتي ومواطَنتي، وبأنني كيان مساوٍ للرّجل".

في الصدد نفسه، استعرَضت فاطمة المرنيسي في كتابها "ما وراء الحجاب" مجموعةً من القصص لنساء من مختلف الجنسيات العربية تعرّضن للتحرّش وهنّ يقُمن بمهامّ نضالية، وبيّنت أنّ تعرّض النساء المشاركات في الحياة العامة للمضايقات من طرف الرجال يجعلهنّ، في كثير من الأحيان، يتخذن أساليب تبريرية لوجودهنّ في المجال العموميّ.

تقول الكاتبة: "يتحوّل ردّ فعل المرأة التلقائي إلى تبرير وجودها في مكان مخصّصٍ للرجال، وليس المطالبة بحقّها في اقتحامه".

تقول المرنيسي: "المرأة دائماً دخيلة في مكان يمتلكه الرجال، بما أنها تُعرَّف كعدوّ، وليس لها الحقّ في استعمال مكان مخصّص للجنس الآخر" (Getty Images)
"يتحوّل ردّ فعل المرأة التلقائي إلى تبرير وجودها في مكان مخصّصٍ للرجال،وليس المطالبة بحقّها في اقتحامه"، فاطمة المرنيسي (Getty Images)
اللوم في قضايا التحرّش والاغتصاب يقع دائماً على النساء، لأنّ العقلية الذكورية تسعى باستمرار لحماية الرجل (Getty Images)
إلقاء نظرةٍ على البلدان المتقدمة ووضع النساء فيها يبيّن بشكلٍ واضح أنّهلا علاقةَ بين لباس المرأة وبين التحرّش الجنسيّ (Getty Images)
يربط كثيرون بين التحرّش الجنسي والاغتصاب ولباس المرأة، مبرّرين هذه الجرائم بنوعية اللباس الذي كانت ترتديه الضحية (Getty Images)
في المغرب مثلاً، كان خروج المرأة من المجال المنزليّ "ظاهرةً تحدث في مناسباتٍ نادرة" (Getty Images)
TRT عربي