تابعنا
يتمتّع لبنان بتنوُّع ثقافي وحضاري وديني، لكن سرعان ما ينقلب التنوّع الغنيّ من نعمة إلى نقمة. فمع 18 طائفة معترفاً بها رسمياً في البلاد، اعتاد اللبنانيون مشاهد دموية جرّاء الصراع الطائفي، كما تشكّلت عبر عقود خارطة تحالفات مذهبية وطائفية شائكة متشابكة.

طلقات نارية تخترق واجهات الأبنية، وقناصة يطلقون الرصاص عشوائياً، وقتلى وجرحى يسقطون تباعاً، وسكان محاصَرون داخل منازلهم... كانت هذه عيّنة من مشاهد هزّت اللبنانيين عند أحد خطوط التماسّ القديمة في بيروت الخميس، مذكِّرةً بالحرب الأهلية الأليمة.

ومع وجود 18 طائفة معترفاً بها رسمياً في البلاد، اعتاد اللبنانيون مشاهد دمويةً جرّاء الصراع الطائفي، كما تشكّلت عبر عقود خارطة تحالفات مذهبية وطائفية شائكة ومتشابكة.

ويخشى مراقبون تكرار سيناريو الحرب الأهلية، خصوصاً أن التحالفات الطائفية القديمة ما زالت تتحكّم في المناخ السياسي، في بلد تخيّم عليه منذ أشهر أسوأ أزمة اقتصاديّة وماليّة مرّت في تاريخه.

فكيف تشكّلت التحالفات الطائفية في لبنان؟ وما أبرز الأحداث الأليمة التي مرّت على تاريخه الحديث؟

"جبال لبنان".. ملاذ الطوائف الآمن

يرجع مؤرّخون تعقيدَ المشهد الطائفي في لبنان إلى نظرية "الملاذ الآمن" التي اتّصف بها لبنان منذ قديم الزمان، نظراً إلى المناعة التي وهبته إياها الطبيعة بتضاريسه الوعرة، التي باتت ملاذاً آمناً للأقليات الدينية والطائفية التي تخشى الاضطهاد.

وكانت الطائفة المسيحية المارونية أولى الطوائف التي لجأت إلى جبال لبنان، حين انشقّ المارون عن الكنيسة الكاثوليكية في القرن الرابع الميلادي بزعامة مار مارون (القديس مارون)، إذ لجأ الأخير وأتباعه إلى جبال لبنان خشيةً الاضطهاد المذهبي.

وتِبع المارون مجيء الدروز، الذين أتوا من مصر ومرتفعات الجولان، إلى جبال لبنان لنفس السبب الذي أتى بالمارونية إلى هناك.

ودار بين الطائفتين صراع طويل، أبرزه ما يُعرف بمجازر 1860 في لبنان وسوريا، الذي وقع بين الموارنة من جهة والدروز والمسلمين من جهة أخرى. وبلغ عدد القتلى حينئذ من المسيحيين نحو 20 ألفاً، كما دُمّر أكثر من 380 قرية مسيحية و560 كنيسة، وبالمثل تكبّد الدروز والمسلمون خسائر فادحة.

وتُعتبر ممارسات طائفتَي الدروز والمارون، تاريخياً، أحد أبرز أسباب التقلُّب السياسي والعنف الدائر من حين إلى آخر في لبنان، حسب ما ورد في كتاب "الصراع الأهلي في لبنان ودمشق عام 1860"، للمؤرّخة والأكاديمية اللبنانية ليلى طرزي فوّاز.

جذور الصراع.. الانتداب الفرنسي والطائفية اللبنانية

عمل الفرنسيون والإنجليز على تقسيم الشرق الأوسط إبّان الحرب العالمية الأولى وهزيمة الدولة العثمانية، وجاء ذلك عبر دسائس ومخططات دنيئة سطرتها صفحات التاريخ السياسي الحديث، وأهمها اتفاقية "سايكس-بيكو" السرية عام 1916، التي تبرز مساعي الإنجليز والفرنسيين لتفتيت وحدة الشرق الأوسط وتقسيمه على أُسُس طائفية لإشعال وتأجيج الفتن، زاعمين بذلك رغبتهم في حلّ ما يُعرف تاريخياً بـ"المسألة الشرقية".

وكان للانتداب الفرنسي على لبنان علامة فارقة وآثار دامية ألقت بظلالها على الطائفية في لبنان لقرن من الزمان. واستمرّ الانتداب الفرنسي أو الاحتلال الفرنسي للبنان بين عامَي 1920 و1943، وما زال لبنان يعاني تجاذبات أفرزتها تلك الحقبة من انقسامات طائفيّة ومذهبيّة.

وعمد الاستعمار الفرنسي إلى فرض سياسة "فرِّقْ تسُدْ" لبسط سيطرته ونفوذه بالقوّة، مما عزّز الانقسامات والصراعات الطائفيّة داخل المجتمع اللبناني الذي لا يزال يدفع ثمنها.

وحسب خبراء، انقسم اللبنانيون إبان الانتداب الفرنسي إلى فئتين: الأولى من الطائفة المسلمة التي كانت تتطلّع إلى تحقيق الاستقلال الكامل والتخلّص من الاستعمار، والأخرى من الطائفة المسيحيّة، وكان هدفها أيضاً الاستقلال، لكن في ظلّ حماية فرنسية.

واستقلّ لبنان في 22 نوفمبر/تشرين الثاني 1943، بعد انتخابات كان أحد طرفيها لبنانيّين موالين لفرنسا ومؤيّدين لعزل بلادهم عن الدول العربيّة، برئاسة أميل إدة.

ويلات الحرب الأهلية

تسبّبت التربة الخصبة التي مهّدت لتحالفات طائفية شكّلتها الطوبوغرافيا ثمّ الانتداب (الاستعمار) الفرنسي للبنان في عديد الأحداث الدمويّة المروّعة، التي باتت شبحاً يطارد الشعب اللبناني من وقت إلى آخَر.

ويعيد المشهد الراهن إلى أذهان اللبنانيين مشاهد الحرب الأهلية التي بدأت في 13 أبريل/نيسان 1975، واستمرّت حتى 13 أكتوبر/تشرين الأول 1990.

وشملت القوى المتصارعة بالحرب الأهلية الدامية مختلف الطوائف الإسلامية والمسيحية، إضافة إلى "منظمة التحرير الفلسطينية"، والجيش الإسرائيلي الذي اجتاح جنوب لبنان عامَي 1978 و1982 بدعوى طرد الأخيرة، وكذلك الجيش السوري الذي دخل البلاد عام 1976.

ويُقدَّر عدد ضحايا الحرب الأهلية بـ150 ألف قتيل و300 ألف جريح ومعاق و17 ألف مفقود، فضلاً عن هجرة أكثر من مليون شخص، وخسائر مادية فاقت 100 مليار دولار، فيما اغتِيلَ خلالها رئيس الجمهورية اللبنانية بشير الجميل بعد شهرٍ من تبوُّئه الرئاسة في بيروت.

وجاءت بوادر نهاية الحرب في أغسطس/آب سنة 1989، مع توصُّل النواب اللبنانيين آنذاك في مدينة الطائف غربي السعودية، إلى ما يُعرف بـ"اتفاق الطائف".

ويشير مراقبون إلى أنّه مع استمرار التحالفات الطائفية والنزعة المذهبية في البلاد، التي كثيراً ما تكبّدت خسائر في الأرواح وتردٍّ للمعيشة، فإنّ شبح الحرب الأهلية سيظلّ يلوح في الأفق اللبناني.

TRT عربي