معركة سابيينزا البحرية.. عندما انتصر الأسطول العثماني على البندقية بالبحر المتوسط (Others)
تابعنا

معركة سابيينزا البحرية، أو تُعرف أيضاً باسم معركة زونيكو أو معركة ليبانتو الأولى. وقعت في شهر أغسطس/آب عام 1499، بين البحرية العثمانية تحت قيادة داود باشا والبحرية البندقية تحت قيادة أنطونيو غريماني، وانتهت بانتصار تكتيكي واستراتيجي ساحق للبحرية العثمانية؛ وذلك بفضل القبطان العثماني الشهير كمال ريس والنقلة النوعية التي حققتها سفنه، والتي حملت واستخدمت المدافع الحربية لأول مرة في تاريخ الحروب البحرية.

وكانت هذه المعركة البحرية شاهداً على ولادة الأسطول العثماني القوي، الذي قلب كفة موازين القوى البحرية لصالح الدولة العثمانية، التي فرضت هيمنتها على البلاد في قارات العالم القديم الثلاث لقرابة الـ6 قرون. سيطر خلالها الأسطول العثماني على جميع مناطق بحر إيجه وعلى الجزر في البحر الأيوني والبحر الأدرياتيكي، فضلاً عن تحويلة البحر الأبيض المتوسط إلى بحيرة تركية.

معركة سابيينزا

بعد فتح العثمانيين لمدينة إسطنبول فضلاً عن نفوذهم البحري المتنامي في البحر الأبيض المتوسط، أعلنت مملكة البندقية بدعم من الفاتيكان ودول أوروبية أخرى حرباً صليبية على أسطول الدولة العثمانية عام 1499، أمر السلطان بايزيد الثاني وقتها أسطوله البحري تحت قيادة داود باشا بالتحرك لمجابهة أسطول البندقية. وعلى إثر ذلك انضم القبطان كمال ريس بأسطوله الخاص المكون من 10 قوادس وسفن أخرى إلى الأسطول العثماني. ومع انضمام الأسطولين أضحى العدد الإجمالي للقوات البحرية العثمانية 67 قادساً وأكثر من 200 سفينة أخرى، فيما كان أسطول البندقية مكوناً من 170 سفينة فقط ضمت 47 قابساً.

واستمرت المعركة البحرية التي كانت جزءاً من حرب البندقية العثمانية (1499-1503)، لأربعة أيام منفصلة: 12 و20 و22 و25 أغسطس/آب 1499، بالقرب من سواحل مدينة زونيكو الإيطالية في البحر الأيوني، كانت الغلبة فيها للأسطول العثماني بقيادة كمال ريس، الذي باغت الأسطول البندقي باستخدامه المدافع من على متن سفنه، والتي ألحقت الهزيمة بأسطول مملكة البندقية وأغرقت سفنه وانتهت باعتقال قائدهم غريماني، الذي جرى الإفراج عنه لاحقاً مقابل فدية مالية ضخمة.

وتتويجاً لجهوده العظيمة التي كانت سبباً في تحقيق النصر، قام السلطان العُثماني بايزيد الثاني بإهداء 10 من سفن البندقية التي جرى اغتنامها إلى كمال ريس. وحسب بعض المؤرخين، فقد كانت معركة سابيينزا البحرية نقطة البداية لفرض هيمنة الأسطول العثماني على مياه البحر المتوسط.

كمال ريس.. صانع مجد الأسطول العثماني

ولد كمال ريس عام 1451 لعائلة من أصول تركية في شبه جزيرة جيليبولو التركية الواقعة في ولاية جناق قلعة الآن، ويعرف أيضاً باسم ابن كمال، فيما ورد "كتاب البحرية" أن اسمه أحمد كمال، وهو عم البحار العثماني ورسام الخرائط الشهير بيري ريس، صاحب كتاب البحرية.

انضم القبطان كمال ريس بعمر صغير إلى البحرية العثمانية، وخدم لأول مرة تحت قيادة محمود باشا في رحلته إلى إريبوز، وما أن حلت نهاية القرن الخامس عشر حتى أصبح أشهر بحار تركي في البحر الأبيض المتوسط، وأبحرت سفنه في مياه المتوسط وسيطر على السواحل الأوروبية والإفريقية، وحمى التجارة العثمانية البحرية في المتوسط، وفاز في معارك بحرية عديدة مع قراصنة مسيحيين وأساطيل أوروبية.

وفي عام 1494، وبعد أن ذاعت شهرته، دعاه السلطان العثماني بايزيد الثاني (1447-1512م) إلى إسطنبول وطالب منه تجديد وتطوير البحرية العثمانية، وفي العام التالي عينه أميراً في البحرية العثمانية. وبين العامي 1494 و1499 طور البحرية العثمانية بشكل لافت، وبنى عدة قوادس (والقادس عبارة عن سفينة كبيرة الحجم تسع لنقل أكثر من 700 جندي) تمكن من خلالها من مهاجمة مملكة البندقية والاستيلاء على سفنهم وشحناتهم التجارية، فضلاً عن إحداثه ثورة حقيقية زادت من قوة الأسطول العثماني بعد أن تمكن من إضافة المدافع إلى سفن الأسطول.

وإلى جانب فوزه على أسطول البندقية بمعركتين بحريتين على التوالي سابيينزا عام 1499 ومودون عام 1500، تمكن من فتح جزيرة رودس بعد هزيمته للأسطول فرسان رودوس عام 1504، فضلاً عن تنظيمه لرحلات بحرية لإنقاذ مسلمي ويهود الأندلس عام 1507. وفي العام 1511، أبحر إلى البحر للانتقام من هجمات فرسان رودس، لكنه فقد حياته نتيجة غرق سفينته بعد أن ضربتها عاصفة شديدة.

الأسطول العثماني

صحيح أن الدولة العثمانية اعتمدت في الأساس على قوتها العسكرية البرية عند تأسيسها على يد الغازي أرطغرل إبان فترة الحكم السلجوقي، إلا أنها لم تهمل المساعي الرامية إلى تأسيس أسطول بحري قوي، خصوصاً مع بدء سيطرتها على المدن البحرية والمواني على شواطئ بحري مرمرة وإيجه في عهد عثمان الأول نجل أرطغرل الذي اتخذ من مدينة يني شهير عاصمة للإمارة عام 1301.

ومع كل فتح جديد للمدن الساحلية، قام العثمانيون بإجراء التحسينات والتطويرات من أجل تعزيز قوة أسطولهم وزيادة نفوذهم البحري. فبعد فتح مدينة بورصة عام 1317 الواقعة على بحر مرمرة واتخاذها عاصمة للدولة، بدأت المحاولات الحقيقية لتأسيس أسطول بحري منافس للأسطول البيزنطي، فضلاً عن النية في استخدامه لفتح القسطنطينية. ففي العام 1323 أُسس الأسطول العثماني الأول، والذي كانت مهمته حينها حماية بحر مرمرة وتأمينه أمام حركة التجارة العثمانية. وبعد ضم مدينة إزميت إلى الأراضي العثمانية عام 1337، ومن ثم حصن رومالي عام 1353، أُنشئت مصانع خاصة بصناعة السفن الحربية في جيليبولو وإزميت، وفور ذلك كلف الأسطول البحري السيطرةَ على مضيق الدردنيل، كما استخدم في محاولات الفتح الأولى لمدينة إسطنبول بعهد السلطان بايزيد الأول.

وشهد عام 1430 أول انتصار حقيقي للأسطول العثماني على أسطول البندقية الذي حاول فك الحصار عن جزيرة سالونيك وتمكن من إخضاع الجزيرة للحكم العثماني. ومع مجيء السلطان محمد الثاني (الفاتح) إلى سدة الحكم عام 1451 باشر اتخاذ الاستعدادات اللازمة من أجل فتح إسطنبول وأدخل العديد من التجديدات على الأسطول البحري للاستفادة منه أثناء حصار المدينة، إذ لعب الأسطول دوراً محورياً بفتح المدينة بعد أن أمر السلطان بنقل السفن عبر اليابسة وإنزالها بميناء المدينة المحصنة بالسلاسل والمدافع بليلة واحدة. وعلى مدار الستة قرون لاحقة، تمكن الأسطول العثماني من فرض هيمنته الكاملة على مياه البحر الأبيض المتوسط بالإضافة إلى البحر الأسود ومرمرة وإيجه، الأمر الذي ساعد بمد نفوذ الحكم العثماني على دول قارات العالم القديم الثلاث (آسيا وأوروبا وإفريقيا).

TRT عربي