فاعليات إحياء "عيد الجمهورية الصربي" بمدينة بانيا لوكا في البوسنة والهرسك (Uncredited/AP)
تابعنا

يتعمّد متطرّفون صرب إطلاق هتافات معادية لتركيا والدولة العثمانية خلال فاعلياتهم المختلفة المُعادية لكل ما هو مسلم، شعباً وحضارةً وثقافةً وتاريخاً، ويُثير هؤلاء الفتن والذعر لما تُبدِي أفواههم من عداء وكراهية، ويحاولون بذلك استعادة شبح الحرب في بلاد لم تلتئم جراحها بَعد.

وكان للأتراك العثمانيين صولات وجولات خلال فتحهم أراضي روملي (البلقان) ونشرهم سماحة الإسلام فيها، وحديثاً دافعت تركيا إنسانياً وإغاثياً عن البوسنة وكوسوفو خلال حربهما ضد صربيا في تسعينيات القرن الماضي، ولعبت دوراً في عملية السلام الّتي أعقبت الحرب. وتقف أنقرة اليوم عبر آليات دبلوماسية نشطة، سدّاً منيعاً أمام عودة شبح الحرب إلى البلقان، وتعمل على تعزيز الحوار بين مختلف الأطراف.

غير أنّ ذلك الدور الإقليمي البارز المُستَنِد إلى خلفية حضارية وتاريخية خلّفتها مئات السنين من العمق الاستراتيجي التركي في البلقان، لا يروق للمتعصّبين الّذين يعملون على استدعاء الماضي عبر هتافات عدائية.

استفزاز مشاعر المسلمين

شهدت مدينة بانيا لوكا في البوسنة والهرسك الأحد، فاعليات لإحياء "عيد الجمهورية الصربي"، على الرغم من حظره قانونياً في البلاد عام 2015.

وشارك في تلك الفاعليات آلاف، بينهم العضو الصربي بالمجلس الرئاسي بالبوسنة والهرسك ميلوراد دوديك، ورئيسة جمهورية صرب البوسنة زيليكا سفيجانوفيتش، ورئيس البرلمان الصربي إيفيكا داتشيتش، ورئيسة وزراء صربيا آنا برنابيتش، والسفير الروسي إيغور كالبوخوف، وبرلمانيون فرنسيون من اليمين المتطرّف، إلى جانب 800 عنصر من أمن جمهورية صرب البوسنة.

وأظهرت مقاطع فيديو تداولها نشطاء هتافات ردّدها متعصّبون بمدينة بريبوي الصربية الجمعة، هاجموا خلالها المسلمين قائلين: "إنّه عيد الميلاد، فلتطلقوا النيران على المساجد!".

كذلك في بلدة يانيا بجمهورية صرب البوسنة، أظهرت صور تداولها نشطاء، متطرّفين صرباً اعترضوا طريق مصلّين مسلمين عائدين من المسجد عقب أداء صلاة فجر الخميس، وأطلق المتطرّفون أعيرة نارية في الهواء لترويع وترهيب المسلمين، مردّدين عبارات معادية للإسلام.

ونقل نشطاء من نوفي بازار، المدينة ذات الغالبية المسلمة الواقعة جنوب غربي صربيا، هتافاً عدائياً أطلقه متعصّبون ضدّ العثمانيين والمسلمين، وخلطوها بعبارات "المجد للصليب"، على نحو استفزازي لمشاعر قاطني المدينة من المسلمين، محاولين استحضار التاريخ لِلَيّ الحقائق وإثارة الفتن.

العثمانيون والبلقان

أخذ الإسلام ينتشر رويداً في جنوب شرق أوروبا قبل عهد العثمانيين، وبدأ الأمر عن طريق التجّار المسلمين بعهد الخلافة العبّاسية، إذ "ارتادوا تلك المناطق للتجارة وجلب الفراء والجلود البلغارية، ومن ثم تمكّنوا بقدر استطاعتهم من نشر الدعوة الإسلامية"، حسب محمد شعبان أيوب الباحث المختصّ بالتاريخ العباسي والمملوكي والعثماني.

ويعتبر المؤرّخون أنّ المرحلة الأهمّ والأبرز من مراحل انتشار الإسلام بمنطقة البلقان جاءت على يد العثمانيين، الذين أخذوا على عاتقهم نشر رسالة الإسلام في مشرق الأرض ومغربها منذ السنين الأولى لحكمهم. كما أنّ وجود العثمانيين في البلقان هو الوجود الإسلامي الأوحد بصورة منظَّمة سياسياً وعسكرياً.

وسعى العثمانيون منذ الجدّ المؤسّس عثمان غازي لتحقيق أهداف دولتهم الناشئة بفتح أوروبا عبر خطوات حثيثة للانتشار غرباً. ففي عهد أورخان بن عثمان تَمكَّن ابنه سليمان من فتح مدينة غاليبولي (جاناكالي). كما ساهمت فرق الإنكشارية "Yeniçeri" العثمانية بشكل ضخم في الفتوحات الإسلامية في ذلك الوقت.

وبعد أن فُتِحَت أدرنة عام 1361 ميلادياً، بات الطريق المؤدّي نحو البلقان ممهَّداً أكثر من أي وقت مضى، و"استطاع السلطان العثماني مراد الأول التصدّي للبيزنطيين وأجبرهم على دفع الجزية واحتلّ نيس التابعة للصرب"، وفق ما ذكره الباحث ذاته.

الفتح الإسلامي واستحضار التاريخ

تُعتَبر معركة كوسوفو الأولى والثانية عامَي 1389 و1448 أشدّ وأعظم الملاحم العثمانية شرق القارة الأوروبية، الّتي حملت طابعاً حاسماً في فتح بلاد البلقان وخضوعها للمسلمين، حين وقف الجيش العثماني الباسل صامداً بقيادة السلطان مراد الثاني، وكبّد الصرب والمجريين هزائم نكراء.

ومن أهمّ نتائج المعركتين بسط الدولة العثمانية سيطرتها في منطقة البلقان، ما مهّد الطريق لفتح القسطنطينية بعدها بخمسة أعوام، كما فُتِحَ خلال الأعوام التالية عديد من بلدان وأراضي البلقان مثل سكوبيا عام 1391، وألبانيا بين عامَي 1393 و1395، فيما نجح العثمانيون في تلك الفترة في إخضاع مناطق كبيرة من بلغاريا تحت حكمهم.

وحسب مؤرّخين فإنّ الأوروبيين كانوا يطلقون على المسلم "التركي"، فإذا دخل أحد من مسيحيي أوروبا الإسلام قالوا "قد غدا تركيّاً (مسلماً)".

وفي هذا الصدد يعلّق مراقبون على هذا الربط التاريخي عند الأوروبيين، لا سيّما شرق القارة العجوز، بين العرق التركي واعتناق المرء الإسلام، مفيدين بأنّ الأمر ذاته يتكرّر اليوم عند ترديد المتطرّفين الصرب هتافات وشعارات معادية للمسلمين، إذ يصفون أحياناً البوشناق ومسلمي البلقان عموماً بالأتراك، وهو ربط لا يخلو من استحضار متعمَّد للتاريخ، ومحاولة بائسة لتأجيج الفتن.

TRT عربي