تابعنا
منذ ستينيات القرن الماضي التي شهدت أفول الاستعمار المباشر وتشكل الدول المستقلة في القارة السمراء، لعب العسكر دوراً رئيسياً في صناعة مسارات السياسة في بلادهم، فبين عامَي 1970 و1989 كانت هناك 99 محاولة انقلاب ناجحة أو فاشلة في جميع أنحاء القارة.

صباح مختلف شهدته الغابون مع إعلان عسكريين إطاحتهم بحكم الرئيس علي بونغو ووضعه قيد الإقامة الجبرية، في مشهدٍ تكرّر في عواصم إفريقية مختلفة خلال السنوات القليلة الماضية.

رسمت موجة عاتية من الانقلابات ملامح المشهد السياسي الإفريقي خلال السنوات الأخيرة، في امتدادٍ لسلسلة طويلة من التحركات العسكرية الشبيهة التي عُرفت بها القارة السمراء، مخلفةً آثارها العميقة في مناحي الحياة المختلفة في دولها.

الغابون تدخل نادي الانقلابات

منذ ستينيات القرن الماضي التي شهدت أفول الاستعمار المباشر وتشكل الدول المستقلة في القارة السمراء، لعب العسكر دوراً رئيسياً في صناعة مسارات السياسة في بلادهم، فبين عامَي 1970 و1989 كانت هناك 99 محاولة انقلاب ناجحة أو فاشلة في جميع أنحاء القارة، في حين وصل عدد الانقلابات الناجحة بين عامَي 1956 و2001 إلى 80 انقلاباً.

ورغم أنّه برز في العقدين الأخيرين ما يمكن وصفه بـ"ربيع انتخابي إفريقي"، فإنّ هذا التوجه ما لبث أن انتكس، إذ شهدت القارة الأفريقية خلال السنوات الثلاث الماضية ما يزيد على عشر محاولات انقلابية م بين ناجحة وفاشلة، مثلت الغابون الغنية بالنفط آخر حلقاتها.

وأعلن المجلس العسكري في العاصمة ليبرفيل تعيين قائد الحرس الجمهوري الجنرال برايس أوليغي نغيما، رأساً للمرحلة الانتقالية بعد "إحالته الرئيس علي بونغو إلى التقاعد"، والذي ينتمي إلى أسرة سياسية حكمت البلاد لفترة تزيد على 55 عاماً، إذ خلف الرئيس المعزول عام 2009 والده عمر بونغو الذي تولي مقاليد السلطة في الغابون منذ 1967.

ويأتي هذا الانقلاب غداة إعلان نتائج انتخابات رئاسية فاز فيها علي بونغو بولاية ثالثة محرزاً 64.27% من الأصوات، في حين تتهم المعارضة معسكر الرئيس بإدارة عملية انتخابية شابها التزوير، مع غياب المراقبين الدوليين وقطع خدمة الإنترنت وفرض حظر ليلي للتجوال في البلاد بعد الانتخابات.

يشار إلى أنّ السلطات الغابونية أحبطت محاولة انقلابية عام 2019، حين استغل عسكريون معارضون إصابة بونغو بجلطة قلبية اضطرته إلى الاستشفاء خارج البلاد لأشهر، لكن لم تستمرّ هذه المحاولة أكثر من ساعات قبل أن يُقضى عليها.

ويأتي انقلاب الغابون بعد قرابة شهر من حدث مماثل في النيجر، ليشكل قطعة جديدة في حزام من الانقلابات يمتدّ من شرق القارة في السودان إلى غربها في مالي وبوركينافاسو.

هكذا تساقطت أحجار الدومينو

وفي تفسير هذه الانقلابات المتتابعة، يذهب بعض الباحثين إلى وضعها ضمن نظرية الدومينو، حيث يؤدي سقوط أول أحجارها إلى أن تتساقط بقية السلسلة واحدة إثر أخرى، وهو ما يعني بالضرورة وجود عوامل مشتركة تسرّع انتقال العدوى بين الدول التي شهدت هذا النوع من التحركات العسكرية.

وفي هذا الإطار، يذهب الباحث الموريتاني المتخصص في الشؤون الإفريقية الدكتور الحسين الشيخ العلوي، إلى أنّ "الأوضاع الداخلية المزرية في الدول الإفريقية شكلت ذريعة للعسكر للانقضاض على السلطة، بحجة تخليص الشعب من الأوضاع المزرية والمتردية".

ويبيّن العلوي في حديثه مع TRT عربي، أنّ هناك افتقاراً إلى "شرعية الصندوق" تعاني منه أغلبية الأنظمة الحاكمة في إفريقيا، وأنّ عدم الشفافية والتزوير يغلبان على العمليات الانتخابية في القارة، مضيفاً أنّ "غياب الديمقراطية وانتفاء ثقافة التبادل السلمي على السلطة، أفضيا إلى انسداد سياسي، ووأد أي تطلع إلى إصلاحات سياسية جذرية في البلدان الإفريقية".

من جهة أخرى، فإنّ "الفساد في معظم الدول الإفريقية، ولا سيّما في الدول التي شهدت الانقلابات؛ أضحى منظومة كاملة" -وفقاً للعلوي- الذي يذهب إلى أنّ هذه "المنظومة تقوم على قلة من المتنفذين مرتبطة بالدول الغربية ذات الماضي الاستعماري"، إذ "يتمتع الطرفان بمقدرات البلاد الغنية بالموارد الطبيعية وسط ملايين تعاني الحاجة والفاقة" وفق تعبيره.

ويلفت العلوي إلى أنّ هذه الأوضاع المختلة أدت إلى "غياب السياسات التنموية الجادة"، إذ تتشكل "حالة احتقان دائمة نتيجة التهميش والإقصاء بما يهدد السلم الأهلي في البلدان الإفريقية".

إفريقيا بين الجيش والتدخلات الأجنبية

ومثلت العلاقات المدنية -العسكرية وكيفية صياغتها معضلة دائمة للنخب السياسية الإفريقية، فوق ما يرى مراقبون فإن الانقلابات المتتابعة رسخت انخراط المؤسسة العسكرية في الحياة السياسية، كما شكلت نوعاً من عقيدة مرتبطة برؤية الجيش لنفسه باعتباره الملاذ النهائي في الأزمات السياسية الخطيرة.

ويعتقد الأستاذ الباحث في الدراسات السياسية والدولية الدكتور نبيل زكاوي، أنّ القوة الرئيسية وراء التدخلات العسكرية مرتبطة بما يسميه "المركزية العسكرية"، مفسراً إياه بأنّه "المركزية السياسية للجيش المتجذرة في موارده وتماسكه التنظيمي".

ويضيف زكاوي لـTRT عربي، أنّ الانقسامات داخل الجيش والتنافس بين نخبه تخلق ميلاً بين القادة العسكريين لمواجهة فشل المؤسسات المدنية، "وهكذا يصير الانقلاب العسكري وسيلة مؤسسية لتغيير الحكومات" وفق تعبيره.

ويرى زكاوي -الأستاذ في جامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس المغربية- أنّ الانقلابات العسكرية هي "شكل آخر من أشكال المنافسة العرقية التي تستخدم فيها النخب العرقية وسائل غير نظامية؛ لكسب أو الحفاظ على مميزاتها السياسية".

وبينما يذهب عديد من المراقبين إلى أنّه لا يمكن إغفال تأثير التنافس الدولي المحتدم على القارة في صناعة الانقلابات، فإنّ الدكتور نبيل زكاوي يعتقد أنّ التبعية للخارج في "إطار الاستعمار الجديد" الذي يتغلغل فيه رأس المال الأجنبي في الاقتصاد المحلي، واعتماد الأخير على التصدير، يؤديان "إلى أرباح منخفضة وغير مستقرة، وإلى الركود الاقتصادي والفقر، وبالتالي الاضطرابات السياسية" وهي من العوامل المحفزة للانقلابات.

تداعيات عميقة

لطالما ألقت الانقلابات المتتابعة في إفريقيا بتداعياتها العميقة على مناحي الحياة المختلفة في دول القارة السمراء، إذ لا يظهر واقع الحال تغيّرات إيجابية جذرية فيها، وفق ما يراه العديد من الخبراء.

وعن ذلك، يقول الدكتور زكاوي إنّ تزايد المؤامرات والانقلابات العسكرية على السلطات المدنية أدّى إلى "إضعاف الدول المعنية وجعلها أقل قدرة على مقاومة هذَين النوعين من التدخلات العسكرية".

ويؤكد الأستاذ في الدراسات السياسية والدولية أنّ هذا "لا يقوض فحسب قواعد المنافسة السياسية، ويعرقل إضفاء الطابع الديمقراطي على الأنظمة السياسية الإفريقية، وبالتالي خلق الأساس لحكم مدني مستقر، " لكنّه أيضاً "يهدّد المستثمرين الأجانب، ما يؤدي إلى تخويف الاستثمارات الأجنبية".

من جانبه يلفت الدكتور الحسين الشيخ العلوي إلى أنّ توالي هذه الانقلابات بشكل متواتر في دول القارة التي تعاني الهشاشة والفشل "يعرضها لعديدٍ من المخاطر، على رأسها حرمان الشعوب الإفريقية من التطور التدريجي للتجربة الديمقراطية".

ويرى العلوي أنّ هذه الانقلابات تدخل الدول الإفريقية "في لعبة الأمم بين الكبار، الأمر الذي يحوّل هذه الدول إلى ساحة لتصفية الحسابات ، ما ينعكس سلباً على السلم الأهلي ويؤخر التنمية ويجعل المنطقة غير مستقرة، ما يجعلها تربة خصبة للجماعات المتطرفة والإرهاب والجريمة المنظمة".

وعن الجانب الاقتصادي، يذهب العلوي إلى أنّ الانقلابات تؤدي إلى "خسارة ما بين 18 إلى 22% سنوياً من الناتج المحلي الإجمالي"، مبيناً أنّ ذلك نتيجة "الاضطرابات والقلاقل الأمنية والحروب البينية وغيرها من تبعات الانفلات الأمني في الدول الهشة".

TRT عربي