تابعنا
حاملين أحلامهم وأكفانهم على أكفهم، يواصل شباب تونسيون رحلة الموت والهجرة غير النظامية عبر المتوسط نحو إيطاليا، على الرغم من تفشي وباء كورونا في هذا البلد المنكوب، بعد تسجيله حصيلة قياسية عالمية بعدد الإصابات والوفيات.

غير عابئة بتفشي وباء كورونا ولا بالتدابير الأمنية والصحية الصارمة التي اتخذتها دول حوض المتوسط، تواصل مراكب الموت هجرتها السرية من تونس نحو سواحل إيطاليا، حاملة معها المئات من الشباب المثقل بالهموم والباحث عن "الجنة الموعودة" في أوروبا، بعد أن ضاقت بهم السبل في وطنهم الأم.

"فيروس الفقر"

"الموت بفيروس كورونا أو الموت غرقاً في عرض البحر، ليس أشد وطأة لهؤلاء "الحراقة" من البقاء في موطنهم الأصلي حيث تهددهم فيروسات البطالة والفقر والجوع"، كما يقول الناطق باسم المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، مؤسسة غير حكومية تنشط في قضايا التنمية واللجوء والهجرة، رمضان بن عمر لـTRT عربي.

القيود الأمنية الصارمة التي فرضتها السلطات في تونس ونظيرتها في إيطاليا بسبب تفشي فيروس كورونا، من حظر تجوال وحجر صحي شامل، لم تردع الشباب عن خوض مغامرة الهجرة غير النظامية نحو السواحل الجنوبية لأوروبا، إذ أحبطت السلطات الأمنية، حسب أرقام رسمية، أكثر من 58 عملية اجتياز للحدود خلسة خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة، فيما ضُبط أكثر من ألف و300 شخص، وتمكن 368 مهاجراً غير نظامي من دخول الأراضي الإيطالية.

حادثة غرق مركب هجرة غير نظامي بجهة "طينة" من محافظة صفاقس خلال الليلة الفاصلة بين 22 و23 مايو/أيار 2020 بالجنوب الشرقي للبلاد، لن تكون الأولى ولا الأخيرة، حسب مختصين في شؤون الهجرة واللجوء. إذ تتعاظم الرغبة لدى الشباب اليائس في البحث عن خيط أمل ينتشلهم من الواقع الاقتصادي والاجتماعي الهش الذي يعيشونه، وزادته أزمة كورونا سواداً وقتامة.

وحدات الحرس تمكنت مؤخرا من إحباط العشرات من محاولات الهجرة الغير نظامية انطلاقا من السواحل الشرقية والجنوبية لتونس نحو إيطاليا.

العقيد حسام الدين الجبابلي، الناطق الرسمي باسم الحرس الوطني التونسي

ويؤكد الناطق الرسمي باسم الحرس الوطني العقيد حسام الدين الجبابلي في حديثه لـTRT عربي أن وحدات الحرس تمكنت مؤخرا من إحباط العشرات من محاولات الهجرة الغير نظامية انطلاقا من السواحل الشرقية والجنوبية لتونس نحو إيطاليا، لافتا لتعمد بعض الشركات المتخصصة في صنع قوارب الصيد بيعها بشكل غير قانوني لمنظمي رحلات تهريب البشر عبر المتوسط والذين ينسقون مع وسطاء في إيطاليا.

نجاح بعض "الحراقة" في اجتياز الحدود البحرية خلسة، رغم القيود والإجراءات الأمنية الصارمة، التي يفرضها الجانب التونسي بالتزامن مع إجراءات الحجر الصحي والتوقي من وباء كورونا، فسرها الجبابلي باستغلال شبكات التهريب للثغرات الأمنية الظرفية نتيجة انشغال قوات الأمن بمعاضدة مجهودات الدولة للتوقي من هذه الجائحة.

93 مهاجراً غير نظامي تمكنوا نهاية الأسبوع المنقضي من الوصول إلى سواحل جزيرة لامبيدوزا الإيطالية، حسب ما نقلته وكالة الأنباء الإيطالية "آكي"، بعد أن تمكّن خفر السواحل من إنقاذ المركب الذي يقلهم، ليُنقلوا إلى سفينة أخرى حيث سيقضون فترة العزل الصحي توقياً من عدوى فيروس كورونا.

تنامي الرغبة لدى الشباب التونسي في الهجرة من تونس نحو إيطاليا، على الرغم من تحول هذا البلد الأوروبي المنكوب إلى بؤرة للفيروس، وارتفاع أعداد الإصابات والوفيات، يكشف عن واقع اقتصادي واجتماعي هش وأليم تعيشه هذه الفئة من الشباب الذي يرزح أغلبه تحت خط الفقر والجوع والبطالة، وسط توقعات لصندوق النقد الدولي بتراجع نسبة النمو الاقتصادي في تونس بـ4.3%.

آخر إحصائية رسمية لواقع البطالة في تونس، كشفت عن ارتفاع نسبة العاطلين عن العمل في تونس لأول مرة منذ ما يقارب سنة ونصفاً خلال الثلاثي الأول من هذه السنة لتبلغ 15.1%، حسب المعهد الوطني للإحصاء، فيما حاز الذكور على النصيب الأكبر.

حسب مختصين في الاقتصاد، كانت لأزمة كورونا تداعيات اقتصادية واجتماعية مباشرة على الفئات المهمشة، إذ زادت من تعميق الهوة بين الطبقات الاجتماعية، وأجبرت الكثيرين على فقدان موارد رزقهم، سيما أصحاب المهن الصغرى والموسمية، وسط عجز الدولة عن إيجاد حلول تنموية وغلق باب الانتداب في الوظيفة الحكومية، في ظل مناخ سياسي يتسم باللا استقرار والتناحر بين الأحزاب داخل قبة البرلمان، ما عمق إحساس اليأس والإحباط لدى هذه الفئة من الشباب الباحث عن التغيير في أي مكان من هذا العالم.

"أمننة" جائحة كورونا

يؤكد الباحث في علم الاجتماع خالد طبابي خلال حديثه مع TRT عربي، أن شبكات التهجير العابرة للقارات استغلت جائحة كورونا وتداعياتها الاقتصادية والاجتماعية على شعوب الدول النامية، لتزيد من تكثيف نشاطها بين السواحل المغاربية سيما تونس، كما يشير إلى استغلال هذه الشبكات لبعض صغار البحارة المتضررين من أزمة كورونا، وقبلها انخفاض الثروة السمكية في المتوسط، لإجبارهم على بيع مراكب صيدهم المهترئة واستغلالها في رحلات الهجرة غير النظامية نحو إيطاليا.

شبكات التهجير العابرة للقارات استغلت جائحة كورونا وتداعياتها الاقتصادية والاجتماعية على شعوب الدول النامية لتزيد من تكثيف نشاطها بين السواحل المغاربية سيما تونس.

خالد طبابي، باحث تونسي في علم الاجتماع

عامل آخر لا يقل أهمية حسب محدثنا، يفسر بدوره ارتفاع نشاط الهجرة غير النظامية في سواحل تونس، يتعلق أساساً باستغلال شبكات التهجير لما يسمى بـ"أمننة الوباء"، على غرار ما حدث إبان الثورة التونسية في 2011، وانشغال قوات الأمن والجيش بمهام إضافية تتعلق سابقاً بتأمين مراكز السيادة والمنشآت الحيوية وحراستها، وتتعلق اليوم بمجابهة جائحة كورونا والحد من انتشارها في البلاد، ما سمح بوجود فراغات أمنية وانخفاض في نسق المراقبة على الحدود البحرية في تونس أو إيطاليا.

الخلاص الفردي

"الحراقة" الذين احترقوا في موطن النشأة كما يصفهم طبابي باتوا يبحثون عن "الخلاص الفردي"، ويحملون فلسفة وفكراً خاصاً بأن أوروبا ستعود إلى مجدها وانتعاشتها الاقتصادية والاجتماعية بعد انتهاء أزمة كورونا على خلاف موطنهم الأصلي الذي سيغرق في أزماته.

حركة احتجاجية

منتدى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية وصف في آخر تقرير له ظاهرة الهجرة النظامية في زمن كورونا بأنها حركة احتجاجية رافضة للوضعية الاقتصادية الهشّة التي تفاقمت أثناء الأزمة لتتحول إلى سلوك جمعي احتجاجي، حاملاً في طياته مشاعر الغضب على خيارات حكومية لم تلبِّ حاجياتهم الاجتماعية ولم تراعِ هشاشتهم أثناء هذه الأزمة.

ويخلص المنتدى إلى القول بأن فقدان الشباب للأمل في حياة ومكانة اجتماعية مرموقة، وبحثهم عن فضاء اجتماعي آخر يحقق لهم آمالهم التي تبخّرت وسط الصراع السياسي، يجعل من الهجرة غير النظامية النافذة الوحيدة لتحقيق مطالبهم.

وسط كل ذلك، ومع تواصل أزمة كورونا، يتوقع خبراء زيادة أعداد المهاجرين وتضاعف نسق الهجرة غير النظامية خلال الأشهر القادمة نحو سواحل إيطاليا، مع تحسن الظروف المناخية وفي ظل انكماش اقتصادي متوقع في تونس.

أزمة كورونا أجبرت بعض صغار البحارة في تونس على بيع مراكبهم لمنظمي الهجرة غير الشرعية (TRT Arabi)
TRT عربي