شعار شركة ميتا (فيسبوك سابقا) ورئيسها مارك زوكربيرغ / صورة: AP (Eric Risberg/AP)
تابعنا

أدى هذا الهبوط في أسهم الشركة إلى خسارة مؤلمة في الثروة الشخصية لمارك نفسه إذ تقلصت ثروته بما يقرب من 31 مليار دولار، وأصبح بذلك خارج العشرة الأوائل الأكثر ثراءً في العالم، الذين يتربع على عرشهم إيلون ماسك بثروة تقدر بنحو 241 مليار دولار، في حين احتلّ مارك المرتبة الحادية عشرة بثروة تقدر بنحو 87 مليار دولار حسب تصنيف بلومبرغ.

هذا الهبوط الذي يُعَدّ ربما الأكبر في تاريخ الشركات الأمريكية يخبرنا كم أن شركة ميتا عملاقة، ولكنه في ذات الوقت يأخذنا إلى معاينة بعض التحولات الجوهرية التي تحدث في عالم تكنولوجيا المعلومات وارتداداتها السياسية والاجتماعية. إن انهيار الشركات الكبرى عادة ما يؤشّر إلى نهاية حقبة وابتداء حقبة جديدة. وإذا كانت شركة ميتا لم تنهَر بالمعنى الحرفيّ للكلمة كما انهار بعض المؤسسات المالية، مثل مصرف "ليمان براذرز" إبان الأزمة المالية العالمية 2008، فإن خسارتها لهذا القدر الكبير من الثروة لهو مؤشّر على أن حقبة جديدة بدأت التشكل، وما خسارة ميتا إلا انعكاس لها.

تأتي خسارة ميتا الكبيرة هذه لسببين جوهريين، هما السببان اللذان يعبران، في ذات الوقت، عن إرهاصات بداية حقبة جديدة في عالم التكنولوجيا الرقمية. السبب الأول يتعلق بطبيعة البنية الرقمية التقنية لشبكات التواصل الاجتماعي، والثاني سياسيّ يتعلق بطبيعة التشريعات التي تُعنى بجانب الخصوصية وحماية البيانات الشخصية للمستخدمين.

في ما يتعلق بالسبب الأول، كان مارك صريحاً عندما عبّر عن مخاوفه من المنافسة الشرسة التي تتعرض لها شركته ميتا من خصومها، ليس فقط في ما يتعلق بالإعلانات التجارية وعدد المستخدمين، بل حتى في الهندسة التقنية المتعلقة ببنية الشبكة. لقد اعتبر مارك أن تطبيق الفيديوهات القصيرة TikTok المملوك للشركة الصينية Bytedance يشكّل تهديداً حقيقياً لتطبيقات ميتا، سواء فيسبوك وانستغرام. فقد بات TikTok يأخذ من رصيد فيسبوك، وفي الوقت الذي ينمو فيه عدد مستخدمي التطبيق الصيني بشكل مطّرد، تعرضت فيسبوك لانتكاسة في نموّ مستخدميها، فقد انخفض عدد المستخدمين النشطين يوميّاً على Facebook بنحو نصف مليون في نهاية العام الماضي، كما انخفض عدد المستخدمين النشطين شهرياً عن تقديرات المحللين، وهذه هي المرة الأولى التي تتعرض فيها فيسبوك لمثل هذا الركود في نمو المستخدمين.

بطبيعة الحال، يبقى فيسبوك من حيث عدد المستخدمين ومن حيث الإيرادات أضخم بكثير من TikTok. فحسب لغة الأرقام، وصل عدد مستخدمي TikTok النشطين في شهر سبتمبر/أيلول الماضي إلى مليار مستخدم، في حين كان عدد مستخدمي فيسبوك 2.9 مليار مستخدم. أما العائدات من سوق الإعلانات فتُظهِر فرقاً كبيراً، إذ حظيت TikTok بما يقرب من 4 مليارات دولار في العام الماضي، مقارنة بـ100 مليار دولار لـFacebook.

على الرغم من هذه الأرقام التي تُظهِر الفارق الكبير بين TikTok وفيسبوك، فإن لدى مارك نظرة مختلفة. فالمنافسة هنا ليست منافسة أرقام بقدر ما هي منافسة نموذج. قدمت TikTok نموذجاً مغرياً لفئة الشباب والمراهقين، وهي الفئة الأكثر استخداماً لمنصات التواصل الاجتماعي. يمكن القول إن بين فيسبوك وTikTok معركة أجيال. فبينما أصبحت قطاعات الشباب والمراهقين خصوصاً الفتيات تنجذب بشكل كبير إلى TikTok، أخذ فيسبوك شكل مأوى الكهول وكبار السن. لقد ظهر كأن ميتا تلهث وراء TikTok من أجل اللحاق بها والبقاء في مضمار المنافسة، وذلك عبر استحداث خاصية Reel على انستغرام التي من خلالها يستطيع المستخدمون مشاركة فيدوهاتهم القصيرة. ولكنها محاولة في أفضل الأحوال غير ناضجة بعد.

الخسارة جراء المنافسة لم تقتصر فقط على معركة الأجيال، ولكن أيضاً على معركة الاختراع. فمنذ أن غيرت فيسبوك علامتها التجارية إلى ميتا، وولجت عالم الميتافيرس، وهو عالم الواقع المعزّز، والواقع الافتراضي، والذكاء الصناعي، كان واضحاً أن المراهنة ستكون مرتفعة جدّاً نظراً إلى حجم الإنفاق الكبير الذي تتطلبه هذه النقلة والذي وصل حسب بعض التقديرات إلى ما يقرب من 20 مليار دولار، هذا فضلاً عن وجود منافسين أقوياء في السوق لهم باع طويل في هذا المجال مثل Roblox وDecentraland وThe Sandbox، وهذا ليس كما حدث قبل 18 سنة عندما أطلقت فيسبوك خدمتها كشبة تعارف أصدقاء في جامعة هارفرد وتمتعت وقتها بالأسبقية.

أما العامل الآخر في خسارة ميتا المالية فهو سياسي كما أسلفت ويتعلق بالخصوصية وحماية البيانات الشخصية للمستخدمين. يمكن القول باختصار إن نسبة كبيرة ومتصاعدة من المستخدمين باتت لا تثق بإجراءات ميتا في ما يتعلق بالخصوصية وحماية البيانات. على سبيل المثال، أعرب ما يصل إلى 87 في المئة من الأمريكيين عن مخاوفهم بشأن الخصوصية إذا نجح Facebook في إنشاء metaverse المقترح، وفقاً لدراسة حديثة من مزود خدمة VPN NordVPN. أظهرت النتائج أيضاً أن أكثر من 41 في المئة يعتقدون أنه سيكون من الصعب حماية هويتهم الحقيقية من هويتهم في metaverse.

مؤخراً، كان لهذه المشكلة صدى في الاتحاد الأوروبي، فقد اشتعلت حرب كلامية بين ممثلين عن الاتحاد الأوروبي وشركة ميتا، هدّدَت فيها الأخيرة بأنها قد تلجأ إلى وقف بعض خدماتها في القارة الأوروبية مثل فيسبوك وإنستغرام إذا أصرّ الاتحاد الأوروبي على موقفه في شأن قانون حماية البيانات الذي يفرض الكثير من الإجراءات على حركة نقل البيانات ما بين ضفتي الأطلسي. لقد كانت تصريحات بعض قادة الاتحاد في هذا الصدد حاسمة رغم أنها لم تخلُ من السخرية.

فوزير الاقتصاد الألماني روبرت هابيك قال في مؤتمر صحفي في باريس إنه "بعد تعرُّضي للقرصنة، عشت بلا فيسبوك وتويتر لمدة أربع سنوات، وكانت الحياة رائعة". من جانبه قال نظيره الفرنسي برونو لو مير: "أستطيع أن أؤكد أن الحياة جيدة جداً بلا فيسبوك وأننا سنعيش بشكل جيد للغاية بلا فيسبوك". وفحوى كلامهما أن فيسبوك إذا أرادت الانسحاب من سوق الاتحاد الأوروبي فأهلاً وسهلاً. هذا مؤشّر واضح على أن البحبوحة التي كانت تتمتع بها منصات التواصل الاجتماعي سابقاً في حصد البيانات والتصرف بها باتت تضيق، وهذا ما أدارته شركة آبل على سبيل المثال جيداً، وباتت الخصوصية في صلب اهتمامها للبقاء في المنافسة، فليست خصائص الجهاز المحمول من سرعة وغيرها هي المهمة فقط، بل أيضاً شروط الحماية والأمن المعلوماتي.

تآكل الثقة بفيسبوك والتطبيقات التي تتبعها سواء إنستغرام وواتساب لم يأتِ من فراغ، بل جاء عبر حوادث تراكمت خلال السنوات الماضية. ربما كانت البداية من فضيحة كامبريدج أناليتيكا التي من خلالها ظهر كيف تلاعبت شركات دعاية عامة بالبيانات الشخصية لأكثر من 50 مليون مستخدم في فيسبوك من أجل التأثير فيهم في الحملات الانتخابية الداعمة للرئيس السابق (عندما كان مرشحاً) دونالد ترمب. وليس آخرها الفضيحة التي فجرتها الموظفة السابقة في فيسبوك فرانسيس هوغن عندما انشقّت عن الشركة وسرّبت مجموعة من الوثائق عُرفت لاحقاً بـ"ملفات فيسبوك"، تحدثت فيها عن التأثيرات النفسية لاستخدام تطبيق إنستغرام على الفتيات المراهقات، وكيف أن شركة ميتا على الرغم من علمها بهذه الأضرار النفسية تغاضت عنها من أجل الاستمرار في جني الأرباح الهائلة.

يحقّ لمارك أن يصاب بالهلع، فالتحولات الحاصلة قد تكون أكبر من قدرة ميتا على مجاراتها، وهو ما يتطلب منه تغييرات كبيرة في سير عمل الشركة قد يكون أحدها خروجه هو وتسليم الدفة لجيل آخر قادر على إحداث نقلة نوعية في طبيعة عمل الشركة وسمعتها.

جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي