تابعنا
بعد نحو خمسين عاماً من احتضان العاصمة السودانية الخرطوم قمة اللاءات الثلاث: "لا صلح، ولا اعتراف، ولا تفاوض مع إسرائيل" أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، يوم الأحد 16 فبراير 2019م، عن مرور أول طائرة إسرائيلية في أجواء السودان.

 تأتي هذه التطورات بعد لقاء ضُرب عليه سياج من السرية في أوغندا بين رئيس مجلس السيادة السوداني الفريق أول عبد الفتاح البرهان ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو.

وقد غرد نتنياهو عبر حسابه في تويتر: "الطائرة الإسرائيلية الأولى قد حلقت أمس في سماء السودان في طريقها إلى أمريكا الجنوبية. المكشوف 10٪ فقط مما يحدث على الأرض. تحدث تغيرات كبيرة لأن إسرائيل هي قوة يجب أخذها بعين الاعتبار".

وأضاف في تغريدة أخرى: "بعد اللقاء التاريخي الذي عقدته مع رئيس مجلس السيادة السوداني سيلتئم هذا الأسبوع فريق إسرائيلي سيعمل على بلورة خطة لتوسيع رقعة التعاون بين البلدين".

مهما يكن، هنالك تفسيرات مفهومة لدوافع إسرائيل ورئيس وزرائها نحو إدخال السودان في زمرة التطبيع. وفي المقابل هناك غموض حول تبرير هرولة رئيس مجلس السيادة الانتقالي السوداني إلى لقاء نتنياهو.

يرجع هذا الغموض لأنه لا يوجد في السودان حتى الآن مؤسسات منتخبة سواء على المستوى السيادي أو التنفيذي أو التشريعي قادرة على المحاسبة أو مكاشفة الشعب. بل هي مؤسسات انتقالية الغرض منها تسيير الأوضاع وترتيب الانتقال من الحكم الشمولي السابق إلى حكومة ديمقراطية منتخبة بنهاية الفترة الانتقالية.

الأمر الآخر، اقتصر القرار بلقاء البرهان- نتنياهو على دائرة ضيقة من المسؤولين السودانيين، في الوقت الذي حظيت فيه التحضيرات للزيارة بالكثير من الإشادة في الرياض والقاهرة وأبو ظبي. وقد بلغ من الاستهانة بمجلس الوزراء أن رئيس الوزراء الانتقالي السيد عبدالله حمدوك نفى علمه بالمقابلة. إلا أن البرهان يؤكد على أن حمدوك تلقى معلومات بهذا الخصوص قبل المقابلة بفترة وجيزة.

المسألة هنا ليس في إثبات صدق البرهان أو كذب حمدوك ولكن في فهم الدوافع. عند تحليلنا للمؤسسات القيادية في السودان، نجد أن مجلس السيادة يتقاسمه العسكريون والمدنيون ولكن الغلبة فيه واضحة للعسكريين.

كما يتمتع هذا المجلس بسلطات تشريعية بل وتنفيذية واسعة رغم حرص قوى الحرية والتغيير التي جاءت بالحكومة الانتقالية على تأكيد الطبيعة التشريفية لمجلس السيادة، وذلك لغياب البرلمان المنوط به عملية التطبيع.

عمد العسكريون إلى الهيمنة على السلطة والاستحواذ عليها عملياً، فالفريق أول البرهان تولى رئاسة المجلس الانتقالي. واستحدثوا منصب النائب الأول لرئيس مجلس السيادة وشغله كذلك الفريق أول محمد حمدان دقلو حميدتي. واستطاعوا الاستحواذ على منصبَي وزير الداخلية ووزير الدفاع في الحكومة التنفيذية "مجلس الوزراء".

كما حرصوا على تعيين ضابط من القوات المسلحة لرئاسة جهاز المخابرات العامة. بهذا المعنى فإن الحكومة التنفيذية التي يقودها مدنيون لا تملك من أمر المؤسسات العسكرية وبرامج إصلاحها شيئاً بموجب الوثيقة الدستورية المؤسسة للفترة الانتقالية، وبحكم سيرورة الأمر الواقع.

في المقابل، ورثت الحكومة التنفيذية ومجلس الوزراء الانتقالي تركة ثقيلة من المشكلات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية مع خزينة خاوية، وعجز مقيم في وضع اليد على موارد الدولة ومفاصل الاقتصاد فيها. بذلك أصبح مجلس السيادة هو الحاكم الفعلي. ولكن كل اللوم الشعبي والسخط الجماهيري توجه لمجلس الوزراء الانتقالي بقيادته المدنية.

لا يبدو أن الأوضاع في السودان مقبلة على انتخابات مدنية قريبة تؤهل البلد للخروج من المرحلة الانتقالية إلى حكم مدني مستقر.  

فالمؤسسات العسكرية ضعيفة الثقة في التجارب الديمقراطية السودانية من جهة وكذلك لها شره تاريخي في الانقضاض على السلطة، وتقويض الحكم الديمقراطي.

في هذا السياق يحاول العسكر وعلى رأسهم البرهان كسب الدعم الخارجي من خلال التقارب مع إسرائيل من أجل تمرير أي انتقال سليم للسلطة له ومن ورائه الجيش.

في الحقيقة، يراهن عبد الفتاح البرهان على استمراره في قيادة المشهد السوداني على قبول غربي، وتفويض إقليمي وسيطرة أمنية في الداخل السوداني. لا يخفي البرهان انحيازه الواضح لمحور الرياض-أبو ظبي-القاهرة. وهو المحور الذي وصفه الأكاديمي الأمريكي ستيفن زونس في محاضرته بجامعة الخرطوم في 9 يناير/كانون الثاني المنصرم بأنها الدول الأعداء المحتملين لموجة الدمقرطة والتحول الديمقراطي في السودان.

بعد ضمان البرهان للقبول الإقليمي لأي تحولات أو ردة محتملة في المشهد السوداني قرع البرهان باب إسرائيل لضمان الترحيب العالمي والغربي به زعيماً للسودان. كما رحبوا قبل سنوات قلائل بسميه السيد عبد الفتاح السيسي في مصر.

بينما تنحدر الأوضاع المعيشية في السودان نحو الكارثة بصورة غير منطقية لتهيئة الشارع لقبول أي سيناريو يمكن أن يقدم حلاً للأزمة. ومنها استيلاء العسكر على الحكم تحت مظلة حفظ الأمن، والدعم الخارجي، وجنة التطبيع المزعومة.

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي. 

TRT عربي