إدوارد جينر يلقّح أحد الأطفال ضد الجدري نهاية القرن الثامن عشر الميلادي. (Others)
تابعنا

تزامناً مع وباء كورونا الذي أجتاح العالم بأسره في العامين الأخيرين، وما رافقه من وعي مجتمعي متنامٍ بأهمية التطعيم وضرورته لتجاوز المحنة التي سببها فيروس كوفيد-19 وسلبت منا حياتنا الطبيعية، ازدادت التساؤلات حول علم المناعة، وكيف ومتى بدأ؟ ومن مكتشفه؟

والحقيقة أن قصة علم المناعة وبداية بناء أركانه الأولى ربما كانت من أعظم قصص التضحية التي شهدتها البشرية على امتداد تاريخها، كيف لا وقد ضحى العالم إدوارد جينر بابنه الوحيد من أجل أولى تجارب لقاح الجدري علية نهاية القرن الثامن عشر الميلادي، والتي حتى يومنا الحالي يحتفل العالم في يوم 14 مايو/أيار من كل عام بالذكرى السنوية لأكبر مغامرات علم الطب التي كانت سبباً في ولادة علم المناعة والتطعيم، ونقل العلوم الصحية إلى مستوى آخر جديد ساهمت بإطالة عمر البشرية وجعلتها أكثر مناعة أمام الأمراض التي تسببها البكتيريا والفيروسات والطفيليات.

حكاية تجارب جينر

إدوارد جينر يطعم الطفل جيمس فيبس ذا الأعوام الثمانية. (Others)

في القرن الثامن عشر وخلال الفترة التي عاش فيها العالم البريطاني إدوارد جينر فقط، حصد مرض الجدري حياة أكثر من 60 مليون شخص (قتل الجدري نحو 10% من السكان في الزمن الذي عاش فيه) حسب بعض التقديرات، وفشلت كل المحاولات الرامية إلى إيجاد علاج لهذا الوباء المفترس الذي حوّل حياة مئات الملايين إلى جحيم مطلق.

خلال دراساته للمرض، أكتشف جينر أمراً غريباً، هو أن مربيات الأبقار والعاملات بحلب وبيع اللبن لم يُصَبن بالجدري القاتل، بل بنوع آخر من الجدري يطلق علية "جدري الأبقار" (cowpox) الذي كانت أعراضه المرضيَّة خفيفة جداً بالمقارنة من الجدري المنتشر آنذاك، والذي كانت تقرُّحاته الجلدية الشديدة والحمى الحادّ المصاحبة له تودي بحياة المصابين به إلى الموت في أغلب الأحيان.

هذا الاكتشاف قاد جينر لأخذ عينة من قيح تقرُّحات جدري البقر من فوق يد شابة حلَّابة تُدعى سارة نيلمس، وحقنها في جلد الطفل جيمس فيبس البالغ من العمر 8 أعوام فقط، وعلى أثرها أصيب الطفل بأعراض حُمَّى خفيفة لبضعة أيام تماثل بعدها للشفاء سريعاً.

ولأجل إكمال بحثه وإثبات صحة ملاحظاته، حقن جينر بعد أسبوعين تقريباً الطفل جميس بعينة من مرض الجدري القاتل، ولاحظ مجدداً عدم إصابة الطفل بالمرض، وهو الأمر الذي قاده إلى الاستنتاج علمياً بأن "جدري الأبقار" قد ولّد مناعة ضد مرض الجدري.

وفي عام 1797، وبعد تأكُّده من صحة ما خلص إليه، أتمّ العالم إدوارد جينر ورقة بحثية وأرسلها إلى الجمعية الملكية في لندن، التي بدورها اعتبرت أن أدلة جينر غير كافية، ليكرّر جينر عملية التطعيم على أشخاص آخرين كان من ضمنهم ابنه الوحيد ذو الـ11 شهراً فقط.

في العام التالي نشر جينر كتابه الجديد الذي تناول من خلاله عملية التطعيم وتجاربه العلمية التي تؤكّد صحة ادعاءه، قوبل الكتاب وعملية التطعيم التي روّج لها جينر بكثير من الانتقادات العلمية والدينية في البداية، لكن مع مرور الوقت بدأ التطعيم يثبت كفاءته في محاربة المرض وتسبب في انخفاض حادّ بعدد المصابين، واستمرّت حملات التطعيم في جميع أنحاء العالم حتى أعلنت الصحة العالمية استئصال الجدري من الكوكب في عام 1980.

إدوارد جينر

الطبيب والعالم الإنجليزي، أبو علم المناعة، إدوارد جينر. (Others)

وُلد الطبيب والعالم الإنجليزي إدوارد جينر في مدينة بيركلي البريطانية لعائلة محافظة يوم 17 مايو/أيار 1749، كان ترتيبه الثامن بين تسعة أطفال، وبفضل والده القس ستيفن جينر الذي كان نائباً عن مدينة بيركلي، تلقى جينر تعليماً مدرسياً جيداً، أتبعه في الثالثة عشرة بتعلم الجراحة لمدة 8 سنوات على يد جراح البلدة، الذي بفضله اكتسب خبرة جيدة لممارسة مهنة الطب والعمليات الجراحية.

في سن 21 سنة سافر جينر إلى مدينة لندن من أجل العمل مع الطبيب الشهير في تلك الفترة جون هانتر، الذي كان يعمل في مستشفى سانت جورج.

قاد اهتمام هانتر بالظواهر البيولوجية واعتماده على البحث التجريبي إلى تغيير طريقة تفكيره ودفعه إلى تبني وجهة نظر عصرية لمواجهة الأمراض والأوبئة في تلك الحقبة، الأمر الذي لعب دوراً محورياً في اكتشاف جينر للقاح الجدري واختراع عملية التطعيم التي أنقذت بدورها مئات الملايين من البشر.

بعد النجاح الهائل الذي حققته نظريته حول مكافحة الجدري وفاعلية حملات التطعيم في مكافحة انتشاره بين الفقراء في المملكة المتحدة، أُطلقَ على جينر لقب "أبو علم المناعة"، لأن فكرة التطعيم التي ابتكرها ساهمت في إنقاذ أعداد هائلة من البشر، وعُين عام 1821 طبيباً استثنائياً للملك جورج الرابع، فضلاً عن تعيينه عمدةً لمدينة بيركلي وعضواً في الجمعية الملكية.

توفي إدوارد جينر يوم 26 يناير/كانون الثاني 1823 عن عمر ناهز 73 عاماً جراء سكتة دماغية.

في عام 2002 ورد اسم جينر في قائمة "بي بي سي" لأعظم 100 بريطاني.

TRT عربي