مجموعة من الأطفال يلعبون إحدى ألعاب تدريب الدماغ (Others)
تابعنا

"عقول جديدة لكبار السّنّ في 12 أسبوعاً!"، كان هذا هو عنوان أحد الإعلانات المنشورة التي اجتاحت المملكة المتحدة في بداية عشرينيات القرن الماضي والتي كانت تروّج ما كان يُعرَف حينها باسم "البلمانية" أو "البيلمانيزم" (Pelmanism)، وهي تقنية لتدريب الدماغ ادّعت الإعلانات المروّجة لها قدرتها على مكافحة ظواهر عقلية مزعجة مثل نقص الأفكار، أو شذوذ الدماغ (Brain fag)، الذي كان يتمثّل بأعراض جسدية ومعرفية متعلقة بالنوم وصعوبة التركيز وآلام جسدية مختلفة.

في الواقع حققت البيلمانيزم التي كانت تُدرَّس في معهد بيلمان بلندن نجاحاً كبيراً، الأمر الذي دفع المعهد إلى فتح مكاتب متعددة في أستراليا وجنوب إفريقيا والولايات المتحدة، وبقي ترويج البيلمانيزم قائماً حتى أواخر ستينيات القرن الماضي قبل أن يغرق كل ما يحيط بها في الغموض وتحوّلت منذ ذلك الحين إلى مجرد فصل مثير للفضول في تاريخ علم النفس.

ما لا يمكن إخفاؤه أن الأبحاث العلمية توسعت كثيراً منذ ذلك الحين إلى يومنا هذا حتى أصبح مصطلح "تدريب الدماغ" مستخدَماً لوصف الأنشطة المعرفية المحفزة المصمَّمة لتحسين اللياقة العقلية وقوة العقل والتي تشمل ألعاب الذاكرة.

ماذا تقول الأبحاث العلمية عن ألعاب الذاكرة؟

في الحقيقة كان أوّل بحث علمي مثير للاهتمام عام 2002م عندما كشف مجموعة من الباحثين في السويد أنّ تدريب الأطفال الذين يعانون اضطراب نقص الانتباه وفرط النشاط على مهامّ الذاكرة العاملة -التي تختبر قدرة الشخص على الاحتفاظ بالمعلومات ومعالجتها خلال فترة زمنية قصيرة- قد حسّن قدرتهم على الانتباه والاستنتاج، وفي عام 2008م قادت عالمة النفس سوزان جايجي، التي تعمل حالياً في جامعة كاليفورنيا الأمريكية، دراسةً خلصت إلى أنّ البالغين الأصحَّاء الذين مارسوا أنشطة متعلقة بالذاكرة العاملة التكيفية قد أظهروا زيادة في القدرة المرتبطة بالذكاء السائل الذي يرتبط بالقدرة على التفكير في المواقف الجديدة دون معرفة مكتسَبة سابقاً، وعلاوةً على ذلك كان لمقدار التدريب تأثير؛ فكلّما زاد تدريب الأشخاص أصبحوا أكثر ذكاءً.

في دراسة أخرى أجرتها تريسي باكيام ألواي، وهي دكتورة حائزة على جوائز في علم النفس بجامعة شمال فلوريدا الأمريكية أمضت أكثر من 10 سنوات في كونها جزءاً من أحدث الأبحاث حول أهمية الذاكرة العاملة ونشرت 13 كتاباً وأكثر من 100 مقال صحفي وفصل كتاب، كانت أهداف الدراسة تتركز حول التحقُّق ممَّا إذا كانت نتائج تدريب الذاكرة العاملة ستنتقل إلى المهارات المعرفية المكتسَبة، مثل المفردات والتحصيل الأكاديمي، وقد وجدت الدراسة أنّ مجموعة طلاب يعانون صعوبات في التعلم في سنّ الثانوية وأُخضِعوا لبرنامج تدريب الذاكرة العاملة، أظهروا أداءً أفضل ملحوظاً في مقاييس المفردات والرياضيات، مقابل عدم وجود أيّ تحسُّن جوهري لدى مجموعة أخرى تلقّت تعليماً مستهدَفاً لنفس المدّة الزمنية، وقد اقترحت الدراسة قدرة برامج تدريب الذاكرة على تحسين النتائج الأكاديمية للطلاب الذي يعانون صعوبات في التعلّم.

ألعاب الذاكرة والأطفال

تشكّل ألعاب الذاكرة للأطفال متعةً ممزوجةً بالتعلُّم في آنٍ واحد، فهي تساعدهم على بناء مهارات التفكير، والتركيز، والانتباه، والمثابرة، إضافة إلى منحها الأطفال فرصة تجربة أشياء جديدة بلا خوف من الفشل، لذلك أصبحنا نرى في السنوات الأخيرة اهتماماً غير مسبوق بالتعليم عن طريق الألعاب، وبهذا الصدد نجد كثيراً من الدراسات البحثية الحديثة التي توصي باستخدام ألعاب الذاكرة في المراحل الابتدائية في التدريس، وكان منها دراسة أُجريَت على 80 طفلاً في المرحلة الابتدائية قُسّموا إلى مجموعتين، إحداهما خضعت للتعليم المنهجي الاعتيادي، مقابل مجموعة أخرى أُدمجَت مناهج التعليم فيها بألعاب الذاكرة، ولوحظ في نهاية الدراسة أنّ الأطفال من المجموعة الثانية أظهروا نتائج أكاديمية أفضل ما يثبت أيضاً قدرة ألعاب الذاكرة على خلق بيئة تفاعلية مفيدة للطفل في أثناء تدريسه.

كيف تعزّز ألعاب الذاكرة قوة العقل؟

تحتاج ممارسة ألعاب الذاكرة إلى مستويات عالية من الانتباه والتركيز في أثناء لعبها، بما يعني أنّه بمجرد أن يتعلّم الشخص زيادة التحكُّم في انتباهه وقدرات المعالجة العقلية لديه فإنّه يمكنه تطبيق ما تعلّمه من ألعاب الذاكرة في الأنشطة اليومية، مما يؤدّي إلى تحسين التركيز ووظائف الدماغ الأخرى، حسبما يشير عديد من الأبحاث العلمية، كما تمنح ألعاب الذاكرة مساحة للتفكير النقدي، وهذا يزيد اهتمام الشخص بالتفاصيل، وبالنظر إلى أنّ عديداً من ألعاب الذاكرة يعتمد على اكتشاف الاختلافات بين صورتين، أو ربط صورتين معاً، فإنّها تعمل على تدريب الذاكرة البصرية، مما يسمح بدوره بتحسين التمييز البصري.

تساعد ألعاب الذاكرة على تحسين الذاكرة قصيرة المدى لكونها المفتاح الأساسي في أثناء ممارسة هذا النوع من الألعاب، ويمكن للذاكرة الجيدة قصيرة المدى أن تحسّن ذاكرة الشخص طويلة المدى أيضاً، إلى جانب رفع مستوى الإدراك والأداء المعرفي لدى الأطفال وتقليل تدهوره لدى كبار السنّ، ومن زاوية أخرى فإنّ ألعاب الذاكرة تفرض على من يلعبها التخطيط المدروس للخطوة أو الحركة القادمة فيها، مما يزيد القدرة على اكتساب مهارات التفكير المسبق، والتخطيط الجيد، وحلّ المشكلات.

نتائج متضاربة في المجتمع العلمي

نشأت صناعة مربحة حول فكرة إمكانية تعزيز الإدراك والأداء المعرفي من خلال ممارسة ألعاب الذاكرة والدماغ، وعلى الرغم من إشارة عديد من الدراسات إلى فوائدها المختلفة، فإنّ هذا الاهتمام الكبير دفع كثيراً من العلماء إلى دراسة الأسس التي قامت عليها هذه الدراسات، والممارسات التي جرت فيها، ومعايير قياس وتحليل نتائجها، وفي هذا الصدد نشير إلى بحث نُشر عام 2016 أشار إلى عديد من الأدلة التي تدعم أنّ تدريب الدماغ يحسّن الأداء في المهامّ المُدرَّب عليها، وأدلَّة أقلّ على أنّ مثل هذه التدخلات تحسّن الأداء في المهامّ وثيقة الصلة، وأدلّة قليلة على أنّ تدريب الدماغ يعزّز الأداء في المهامّ ذات الصلة البعيدة أو أنّ التدريب يحسّن الإدراك في الحياة اليومية.

يشير الباحثون الذين يشكّكون في فوائد ألعاب الذاكرة المختلفة إلى أوجه قصور وتناقضات كثيرة في عديد من الدراسات المنشورة التي تدعم النتائج الإيجابية لألعاب الذاكرة، مما جعل الميدان العلمي يغرق في نتائج متضاربة حولها، ولكن ما يتّفق عليه معظم العلماء والباحثين هو أنّ المجال يحتاج إلى دراسات أكبر، محكومة بممارسات جيدة وأدوات قياس وتحليل ممتازة لاستخلاص استنتاجات أكثر وضوحاً حول الرابط بين ألعاب الذاكرة وقوّة العقل.



TRT عربي