سوزان حمد، 37 عاماً، نازحة من بيت حانون برفقة 12 فرداً من عائلتها، فقدت منزلها بالكامل في الأيام الأولى للحرب، وانتقلت إلى منطقة الشاليهات غرب غزة، قبل أن تُجبَر مجدداً على النزوح بعد الاجتياح الأخير لشمال القطاع.
اليوم تجد سوزان نفسها على شاطئ البحر بين الرمال ومكبّ النفايات جنوباً، تعيش واقعاً لا يشبه سوى الانتظار الطويل لوطنٍ مؤجل وبيتٍ لم يبقَ منه سوى الذكريات.
تقول في حديثها لـTRT عربي: "نحن نعيش ونجاور مكبات النفايات، بيتي في بيت حانون ضمن منطقة خطرة، ولو أردت العودة أسأل نفسي: إلى أين أعود؟ هناك خيمة، وهنا خيمة... لا مساحة أضع فيها حتى خيمتي، حتى إن توقفت الحرب، لا تزال حدود بيتي خطيرة، كل الأماكن الأخرى بغزة مكتظة بالناس، وهذه ليست حياة”.
تصف سوزان حالها وهي تشير إلى خيمتها المهترئة المتجاورة مع مكب نفايات بقولها: "لا نظافة، الماء والهواء ملوثان، الفئران والحشرات تملأ المكان، والذباب يأكل معنا الطعام، الأمراض الجلدية أكلت أجساد أبنائي، الأطفال لا ينامون طوال الليل من لسعات البعوض، ظهرت على أجسادهم حبوب غريبة لا نعرف حتى ما هي”.
وتكمل سوزان شرح مأساتها وعائلتها قائلة: "نعاني من ندرة المياه هنا فنضطر إلى الاغتسال نحن والأطفال بمياه البحر رغم أنها ملوّثة بالصرف الصحي، وننظف بها أواني الطعام، لكن ماذا نفعل؟ لا بدائل لدينا”.
قبل الحرب كانت إدارة النفايات في غزة تعتمد على ثلاثة مكبّات رئيسية لدفن المخلفات في مناطق جحر الديك، والصوفة/الفخاري، ودير البلح جنوب ووسط القطاع، وتنفّذ البلديات جمع وفرز ونقل المخلفات بشكل منظم، ما حدّ من انتشارها في الأحياء والشواطئ.
مع اندلاع الحرب وتدمير البنية التحتية، حتى بعد انتهائها، توقّف الوصول إلى هذه المكبّات، وتحولت الشوارع ومناطق الإيواء إلى نقاط تجميع مؤقتة، جرى إنشاء نحو 72 موقعاً كبيراً و69 صغيراً كحلول طارئة، لكنها لم تُجهّز وفق المعايير البيئية، ما أدى إلى تكدس آلاف الأطنان من النفايات بلا معالجة، مسببة تلوث الهواء والتربة والمياه الجوفية، وتحويل حياة النازحين القاطنين بجوارها إلى كابوس صحي وبيئي.
في ذات السياق، حذّر محمد أبو عفش، المتحدث باسم الإغاثة الطبية في غزة، من كارثة بيئية وصحية متفاقمة بسبب التكدس الهائل للنفايات في محيط مراكز الإيواء ومناطق النزوح، مؤكداً أن الإمكانيات المتاحة لجمعها أو التخلص منها أصبحت شبه معدومة.
وأوضح في حديثه لـTRT عربي أن كميات ضخمة من النفايات تتراكم يومياً بلا معالجة أو طمر صحي، ما خلق بيئة خصبة لتفشي الأمراض الجلدية والمعوية والجهازية بين النازحين.
وقال إن الطواقم الطبية لاحظت أنواعاً جديدة من الأمراض الجلدية تظهر لأول مرة منذ اندلاع الحرب، إلى جانب زيادة حادة في حالات النزلات المعوية ومشكلات الجهاز التنفسي.
وأشار أبو عفش إلى أن هذه النفايات تُصدر روائح كريهة وعصارات سامة تتسرب تدريجياً إلى التربة والمياه الجوفية، مسببة تلوثاً خطيراً لمصادر المياه التي يعتمد عليها السكان في الشرب والاستخدام اليومي.
وأضاف أن عصارات النفايات تحتوي على مركبات كيميائية وبكتيرية خطيرة تجعل المياه غير صالحة للاستخدام البشري، وتزيد احتمالية الإصابة بأمراض مثل الكوليرا والتيفوئيد.
كما لفت إلى أن الهواء لم يسلم من التلوث، إذ يُضطر البعض إلى إحراق النفايات للتقليل من تراكمها، مما يؤدي إلى انبعاث غازات سامّة كأول أكسيد الكربون والديوكسين، وهي مواد تسبب أمراضاً تنفسية مزمنة، خصوصاً لدى الأطفال وكبار السن.
وختم أبو عفش بالقول إنّ النظام الصحي في غزة يواجه انهياراً شبه كامل، إذ لا تصل إلى المستشفيات سوى 10% من احتياجاتها الطبية، ما يجعلها عاجزة عن مواجهة تبعات هذا التلوث الكارثي.
لا حلول بلا مُعَدّات
وأشار المتحدث باسم بلدية غزة عاصم النبيه لـTRT عربي إلى تراكم ربع مليون طن من النفايات بين أحياء في قطاع غزة، وبيّن أن أكوام النفايات العشوائية بين النازحين تشكل كارثة مزدوجة بيئية وصحية.
وقال النبيه: "إنّ بعض المكبات العشوائية يضرّ بالخزان الجوفي، لكنها حالياً الطريقة الوحيدة لتجميع النفايات في مكبات عشوائية غير مجهزة، إذ تُضطر البلدية إلى استخدامها لمحدودية الخيارات، وما زال جيش الاحتلال يمنع دخول أي مُعَدّات أو الوصول إلى مكبات النفايات تحديداً بجحر الديك وسط غزة".
وأكد أنه لا حل للأزمة دون السماح لطواقم البلدية بالوصول إلى مكبات النفايات وإدخال مُعَدّات ثقيلة لنقل وتجميع النفايات وتصريفها، مبيناً أنه جرى تدمير 85 % من مُعَدّات البلدية.
كما وضح أن البلدية تعاني من عدم وجود وقود، ونقص مضخات لمعالجة مياه الصرف الصحي، ما يضطرهم إلى تصريفها في البحر، وهو ما يفاقم الأزمة البيئية.
وتابع أن تكلفة إعادة إعمار مرافق البلديات وما يتعلق بها تجاوزت خمسة ملايين دولار، وتشهد كل يوم زيادة في الأضرار.
وأمام هذا الواقع تتفاقم أزمة تكدس النفايات وأضرارها على النازحين، على إحدى أرصفة مدينة دير البلح وسط قطاع غزة، حيث تتجمع أكوام النفايات وتتصاعد الروائح الكريهة. يعيش النازح رائد دلول (28 عاماً) وأطفاله الستة في خيمة مهترئة بجانب مكبّ نفايات أصبح جزءاً من يومياتهم المأساوية. نزح رائد من حي الزيتون بعد أن دمّر الاحتلال منزله بالكامل قبل شهور، ولم يجد مكاناً آخر للسكن.
يقول رائد لـTRT عربي فيما يحاول إبعاد الذباب والحشرات التي تهاجم وجهه: "نزحت إلى هذا المكان منذ شهور، هارباً من القصف، لم يتبقَّ لي سوى هذه الخيمة، فالطرق ومراكز الإيواء متكدّسة، وكان هذا الخيار الأوحد المتاح".
الروائح الكريهة والأمراض الجلدية والجهاز التنفسي أصبحت واقعاً مستمراً، ويضيف: "كل يوم أذهب أنا وأطفالي إلى أقرب عيادة طبية، ونعاني من السعال وضيق النفس بسبب الروائح المنبعثة من المكب، والحشرات أكلت وجوه أطفالي".
وحاول رائد العودة إلى بيته بعد توقف الحرب الإسرائيلية على غزة، لكنه يصف الوضع بالقول: "الدمار شامل، لا ماء لأطفالي، ولا كهرباء، ولا صرفَ صحياً، ولا أسواق لتأمين الطعام، مقومات الحياة معدومة تماماً”.
يختتم حديثه بصوت مبحوح: "نريد أن نعيش حياة بسيطة، نرجع إلى بيوتنا، ننام من غير رائحة نفايات، ومن غير خوف".
















