مع كل منخفض جوي يضرب غزة، تتحول المنازل المدمّرة جزئياً والتي أنهكها القصف الإسرائيلي إلى خطر قاتل يهدد حياة ساكنيها، بعدما أجبرت آلاف العائلات المنهكة من النزوح المتكرر على العودة إلى بيوت لم تعد صالحة للسكن بحثاً عن مأوى.
وفي ظل غياب أي بدائل آمنة، وبين جدران متصدعة وأسقف آيلة للسقوط، لا تحتاج المأساة إلى قصف جديد؛ يكفي هبوب عاصفة واحدة لتتحول هذه البيوت إلى مقابر لأصحابها.
إحد هذه البيوت كان لعائلة بدران في بلدة بيت لاهيا شمال قطاع هناك، لم تصمد الجدران المدمرة أمام المنخفض الجوي الأخير، لتنهار فوق رؤوس أصحابها.
أسرة كاملة ضحية
يروي الشاب العشريني رياض جودة، لـTRT عربي، أن عمته إيناس جودة متزوجة من عائلة بدران نزحت أكثر من 15 مرة منذ بداية الحرب قبل أن تعود مع زوجها وأبنائها إلى منزلها المدمّر في الشمال رغم خطورته، كان البيت شبه مفرغ من القصف، أعمدته متشققة وسقفه مهدد بالانهيار، لكن بعد سنوات من النزوح، لم تعد عمته تحتمل خيمة جديدة أو رحلة تشريد أخرى رغم التحذيرات المتكررة، دفعهم الإرهاق والبحث عن استقرار إلى التمسك بما تبقى من المنزل قبل أن ينهار عليهم فجأة.
يضيف واصفاً ما حدث بالكارثة الكبيرة:" انهار المنزل فوق رؤوس ساكنيه، ما أدى إلى استشهاد عمتي إيناس وزوجها وأبنائها، ستة أفراد من عائلة واحدة، ولم ينجُ من المأساة سوى طفل يبلغ من العمر 13 عاماً، فيما استشهد خمسة من أفراد الأسرة".
يختتم رياض حديثه بقوله: "عائلة كاملة انمحت من السجل المدني لم يقتلهم القصف هذه المرة، بل بيتهم الذي عادوا ليعيشوا فيه، فكان الموت بانتظارهم”.
يزداد الواقع جحيما بالنسبة إلى الغزين جراء تخوفات من تكرار حوادث انهيار المنازل على رؤوس ساكنيها، مع كل منخفض جوي.
وشهد قطاع غزة مؤخراً ارتفاعاً في عدد الضحايا وصل إلى (14) شهيداً بينهم أطفال ونساء، وانهيار 13 منزلاً و27000 خيمة، في كارثة إنسانية مازالت تتصاعد في القطاع، هذه المرة ليس بفعل القصف الإسرائيلي لكن بسبب آثاره، إذ تضررت 450 ألف وحدة سكنية، منها 170 ألفاً هُدمت كلياً، و200 ألف وحدة مدمرة جزئياً، والباقي لا يصلح للسكن. وفق بيانات صادرة عن المكتب الإعلامي الحكومي بغزة.
فالضحية هذه المرة طفل صغير اسمه آدم لم يتجاوز عمره أربع سنوات تعرض لإصابة خطيرة بين جدران منزله الآيل للسقوط في منطقة الصفطاوي شمال غزة، بعدما عادت عائلته إلى بيتها المدمّر بحثاً عن مأوى مؤقت من النزوح الطويل، هذا الطفل الذي لم يعرف سوى التشريد والخوف، صار شاهداً على مأساة لا تُحتمل، تكررت عبر أجيال في قطاع يئن من الحصار والحرب ليترك الحسرة في قلب والدته.
خطر بلا تأهيل هندسي
تقول مروة حسني (38 عاماً) أم لأربعة أطفال بينهم طفلها الصغير آدم، دون توقف عن البكاء طيلة حديثها: "عشنا عامين في خيمة متهالكة وضيقة في ظروف معيشية سيئة جداً نفتقد أبسط مقومات الحياة، بالشتاء كنا نغرق وبالصيف نحترق من شدة الحرارة عندما كنا نازحين في مواصي خانيونس جنوب غزة، كل يوم كنا نحلم بالعودة إلى بيتنا، ومأوانا وعندما عدنا وجدنا البيت مدمراً جزئياً بشكل كبير لم يتبقَّ سوى غرفة واحدة وجدرانها متصدعة وأعمدة المنزل مائلة من شدة القصف، لكننا لم نملك خياراً آخر، فالبقاء في الخيمة كان أصعب".
تكمل لـTRT عربي: "عدنا إلى المنزل قبل شهرين مع بداية الأمطار، أصلح زوجي بعض الأمور في البيت، إصلاحات عدة، وأغلق ما تبقى منه بنايلون، ومع كل هبة رياح قوية كنت أشعر برعب كبير على أولادي وأدعو الله أن يحفظنا، حتى جاء المنخفض الأخير، كان آدم يلعب مع شقيقته الصغيرة سقط على رأسه حجر كبير من السقف المتهالك، بسبب شدة الرياح والأمطار، تعرض لإصابة خطيرة وما زال بين الحياة والموت".
توضح مروة بحديثها "عدت إلى منزلي باحثة عن مأوى ولم أعرف أن الموت قد يخطف طفلي، حتى أطفالي الآخرون أخاف عليهم ربما تتكرر المأساة مرة أخرى ويسقط المنزل علينا ونظل تحت الأنقاض، كل ما أتمناه أن يعود طفلي إلى الحياة مرة أخرى".
في السياق ذاته حذر محمد نصار مهندس في تقييم السلامة الهيكلية للمباني بغزة من عودة العائلات إلى المنازل المدمرة حتى لو جزئيا، دون إعادة تأهيل هندسي شامل وتقييم لها من قبل لجان هندسية مختصة، وما دون ذلك يعرض حياة الناس للخطر الدائم.
ويكمل في حديثه مع TRT عربي: “في كثير من الحالات ما تكون علامات الهشاشة الهيكلية والانهيار الوشيك واضحة على المنازل، ومع ذلك، يدفع ضغط الظروف الإنسانية وقلة البدائل العائلات إلى المجازفة والبقاء في أماكن غير آمنة”.
ويبين نصار أن المنازل المدمرة وما زالت واقفة على عمدانها في غزة تعاني من تصدعات في الأعمدة والجدران تجعلها غير مستقرة، فالأمطار الغزيرة تتسرب عبر الشقوق فتتلف المواد الخرسانية والحديدية وتضعف الأساسات، بينما تزيد الرياح القوية الضغط على الأجزاء المتهالكة، هذه العوامل الجوية ترفع بشكل كبير من خطر انهيار المباني بشكل مفاجئ، مما يجعل البقاء فيها في أثناء الطقس السيئ تهديداً مباشراً لحياة السكان.
















