روته أوضح، خلال مؤتمر صحفي في بروكسل رفقة القائد الأعلى لقوات الناتو في أوروبا الجنرال أليكسوس غرينكيفيتش، أن الهجوم الروسي الأخير بطائرات مسيّرة على الأجواء البولندية شكّل جرس إنذار للحلف بأسره.
فالمسيّرات الروسية لم تتوقف عند بولندا، بل امتدت إلى أجواء رومانيا وإستونيا ولاتفيا وليتوانيا، وهو ما وصفه روته بأنه "تطور خطير وغير مقبول، بغض النظر إن كان متعمداً أم لا".
الخطة الجديدة للناتو، كما كشف غرينكيفيتش، ليست مجرد تعزيز عسكري مؤقت، بل "تصميم دفاعي جديد بالكامل". فبدلاً من الاعتماد على دوريات جوية منفصلة ومنظومات دفاعية متفرقة لكل دولة على حدة، ستقوم العملية على مقاربة شاملة ومتكاملة، تسمح بسد الثغرات، ونشر القوات بسرعة عند الحاجة، وتحقيق تنسيق أكبر على امتداد الجناح الشرقي.
وسيشارك في العملية عدد من الحلفاء الأوروبيين، بينهم الدنمارك وفرنسا وبريطانيا وألمانيا، لتوفير وحدات متخصصة في مواجهة تهديد المسيّرات، التي باتت أداة رئيسية في الهجمات الروسية على أوكرانيا وجوارها.
التحرك جاء بعد اجتماع طارئ بموجب المادة الرابعة من ميثاق الناتو، إثر إعلان وارسو أن مجالها الجوي تعرض لاختراقات "غير مسبوقة". وقد أكدت قيادة القوات البولندية أنها رصدت عبر الرادارات عشرات الأجسام المشبوهة، وتعاملت مع بعضها بإجراءات دفاعية وإسقاط مباشر.
الدرع الجوي
يعتمد حلف شمال الأطلسي "الناتو" على درع جوي متعدد الطبقات، يهدف إلى رصد التهديدات والتعامل معها وفق منظومة معقدة من الوسائل الجوية والبرية. وبحسب مجلة الإيكونوميست، فإن الخطوة الأولى في هذه المنظومة تتمثل في الكشف المبكر عن الخطر، من خلال أسطول يضم 14 طائرة للإنذار المبكر والسيطرة (AEWC) متمركزة غالباً في ألمانيا، لمراقبة التحركات الجوية الروسية في أوكرانيا وبيلاروسيا، سواء كانت طائرات أم مسيّرات أو صواريخ.
وتدعم هذه الجهود طائرات مسيّرة بعيدة المدى من طراز RQ-4D "فينيكس" تنطلق من قاعدة صقلية. كما اتجهت بعض الدول إلى وسائل أكثر ابتكاراً، مثل بولندا التي وقّعت عقداً بقيمة مليار دولار لشراء مناطيد أمريكية مجهزة برادارات، في حين اختبرت القوات الأمريكية أنظمة استشعار صوتية قادرة على رصد أصوات المسيّرات.
أما المكوّن الثاني فيعتمد على المقاتلات المنتشرة في شرق أوروبا، والتي يجري تدويرها بين الدول الأعضاء. وتتولى حالياً كل من إيطاليا وإسبانيا والمجر حماية أجواء البلطيق، بينما تراقب إيطاليا أيضاً المجال الجوي لرومانيا، وتشرف هولندا والنرويج على أجواء بولندا، في مهمة مرتبطة مباشرة بحماية طرق إمداد أوكرانيا بالسلاح الغربي. وفي هذا السياق، أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، في 11 سبتمبر/أيلول، إرسال ثلاث مقاتلات "رافال" إلى بولندا.
ويأتي المكوّن الثالث متمثلاً في أنظمة الدفاع الجوي الأرضية. فبالإضافة إلى الرادارات والأنظمة التي تمتلكها دول أوروبا الشرقية، جرى نشر بطاريات "باتريوت" المتقدمة القادرة على اعتراض الطائرات والصواريخ الباليستية. وقد أرسلت ألمانيا بالفعل بعض هذه البطاريات إلى بولندا، بينما تستعد هولندا لاتخاذ خطوة مماثلة. كما تشغّل الولايات المتحدة وعدد من الحلفاء مدمرات بحرية مجهزة برادارات وصواريخ اعتراضية، وتدير واشنطن رادارات أرضية متقدمة في كل من بولندا ورومانيا.
وتوضح الإيكونوميست أن هذه المكونات جميعاً ترتبط ضمن إطار ما يعرف بـ"الدفاع الجوي والصاروخي المتكامل" (IAMD)، بإشراف "القيادة الجوية المتحالفة" المتمركزة في رامشتاين بألمانيا بقيادة جنرال أمريكي. ويتوزع العمل التنفيذي على مركزين للعمليات الجوية المشتركة؛ الأول في ألمانيا لمراقبة المجال الجوي شمال الألب، والثاني في إسبانيا لمتابعة المجال الجوي في جنوب القارة.
ثغرات
تظهر خطط الحلف وتجهيزاته وكأنها جدار حديدي صُمم لمواجهة أي تهديد محتمل، غير أن الواقع يكشف عن ثغرات كبيرة في هذا الجدار. فبحسب مجلة الإيكونوميست، فإن قدرات الدفاع الجوي تعاني نقصاً واضحاً، إذ جرى إرسال جزء كبير من منظومات "باتريوت" إلى أوكرانيا، ما أدى إلى تقليص المخزون الأوروبي. وتحت ضغط الرئيس الأمريكي دونالد ترمب، تعهّدت ألمانيا بتزويد كييف ببطاريات إضافية، بينما حوّلت واشنطن طلباً سويسرياً لمصلحتها.
وقد أقرّ الأمين العام للناتو، مارك روته، في يونيو/حزيران، بأن الحلف يحتاج إلى تعزيز قدراته الدفاعية الجوية بنسبة 400% لتلبية خططه الحربية، وهو هدف شبه مستحيل في قارة بحجم أوروبا.
وتضيف المجلة أن روسيا باتت تستخدم مسيّرات صغيرة ورخيصة من طراز "جيربيرا"، يصعب على الرادارات رصدها. وقد شهدت الأشهر والسنوات الأخيرة عدة حوادث لاختراقات مباشرة؛ من سقوط حطام في رومانيا (سبتمبر/أيلول 2023)، إلى مرور صواريخ فوق بولندا (مارس/آذار 2024)، ثم هبوط مسيّرة في لاتفيا (سبتمبر/أيلول 2024)، وأخيراً توغلات متكررة في الأجواء البولندية هذا الشهر.
وفي إحدى الوقائع، استغرق العثور على صاروخ كروز روسي تحطّم قرب بيدغوش عدة أشهر، قبل أن تعثر عليه مصادفة سيدة في أثناء ركوب الخيل. وأوضحت بولندا أنها تجاهلت معظم المسيّرات في 10 سبتمبر/أيلول لأنها اعتُبرت مجرد خدع غير مسلحة.
وفي هذا السياق، يحذّر "المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية" من فجوات واسعة في قدرات أوروبا قصيرة المدى، تجعلها غير مهيأة لمواجهة أنماط الحرب الجارية في أوكرانيا.
أما المعضلة الأهم فهي أن الدرع الأوروبي ما زال يعتمد اعتماداً شبه كامل على الولايات المتحدة، التي باتت مع ترمب أقل تركيزاً على القارة، وأقل استعداداً لتزويدها بالأنظمة الدفاعية أو تعويض مخزوناتها. صحيح أن لدى أوروبا مئات المقاتلات التي تسيّر دوريات يومية، لكنها تظل رهينة الخبرة والقيادة الأمريكية. وقد قلّل ترمب نفسه من خطورة الانتهاكات الروسية، قائلاً في 11 سبتمبر/أيلول: "قد يكون خطأ".
وبحسب الإيكونوميست، فإن مدى استعداد أوروبا لتحمّل المسؤولية ما زال موضع شك. فقد اشتكت أوكرانيا مراراً من ميل بعض دول الناتو إلى التقليل من شأن هذه الاختراقات خشية التصعيد.
ووفق قواعد الحلف الحالية، لا يُسمح للناتو باعتراض المقذوفات فوق أوكرانيا أو بيلاروسيا إلا بموافقة جميع الأعضاء الـ32، وهو أمر من شبه المؤكد أن ترفضه دول مثل المجر وسلوفاكيا. وفي حال اندلاع حرب شاملة قد تتغير هذه القواعد، لكن حتى الآن تبقى أوروبا في موقع دفاعي متأخر.