يفرض مرور عام على سقوط نظام الأسد وحل الجيش والأجهزة الأمنية السابقة اختباراً عملياً لفكرة "الجيش الجديد" وبناء نواته من فصائل الثورة؛ إذ يتقدم سؤالٌ حاكم: هل يتحول هذا الجيش الوليد إلى مؤسسة وطنية تحمي الشعب وتضبط السلاح وتؤمِّن الحدود، أم يبقى إطاراً هشاً يعيد إنتاج الفصائلية داخل بنية رسمية جديدة؟
في مقابلة سابقة لوزير الدفاع السوري اللواء مرهف أبو قصرة، حدد معالم الجيش الجديد، وبدا واضحاً أن القيادة السورية الجديدة، تتجه لبناء قائم على مركزية القرار العسكري، وعلى إعادة تعريف وظيفة المؤسسة من "ذراعٍ سلطوية" إلى أداةٍ للدولة المدنية، مع سعيٍ متوازٍ لإعادة تنظيم الرتب، وإحياء التعليم العسكري، وحصر السلاح بيد الدولة، ولكن هذه الخطة محاطة ببيئة تهديداتٍ مركّبة تعوق الإنجاز الكامل، وقد تبقى الأمور مفتوحة على الارتداد.
يبحث هذا المقال موقع الجيش السوري الجديد بعد عامٍ على التحرير عبر تتبّع مسارات توحيد القيادة ودمج الفصائل، واستيعاب الضباط المنشقين، وضبط التراتبية، وبناء نموذجٍ احترافي.
توحيد القيادة العسكرية ودمج الفصائل
واجهت الساحة العسكرية الثورية لسنوات معضلة "تجاوز الفصائلية"، وفشلت محاولات سابقة للخروج منها وصلت أحياناً إلى المواجهة المسلحة، ما رفع تكلفة أي دمجٍ لاحق. لكنَّ السياق تبدَّل بعد سقوط النظام، إذ سارعت القيادة الجديدة إلى تأسيس وزارة الدفاع، وعقدت مئات الاجتماعات مع الفصائل لوضع أسسٍ ومعايير للدمج عبر لجانٍ عسكرية مختصة.
لم تنبع دوافع الاندماج من رغبة تنظيمية فقط، بل من خوف مباشر من سيناريوهات التفكك والاقتتال الداخلي ومن إدراك تهديدات قائمة: داعش الإرهابي، وفلول النظام، والتدخلات الإقليمية، وإسرائيل، إلى جانب ملفات استعصاء محلية مثل ما تُعرف بقوات "قسد" (واجهة تنظيم PKK\YPG الإرهابي) ودمجها في الدولة السورية، وتحديات لاحقة كميليشيات الهجري في السويداء.
بشكل عام يمكن التقاط ملامح التنظيم الجاري من زاويتين متكاملتين: الدمج الواسع لأكثر من 130 فصيلاً ضمن هيكل الوزارة مع إلزامية الانخراط، ومقاربة تشدد على تفكيك الكتل الفصائلية لا الحفاظ عليها، عبر إعادة توزيع العناصر وفق الاختصاص والحاجة ضمن صنوف ووحدات مختلطة تدار مركزياً.
يُضاف إلى ذلك توقيع اتفاقٍ مع ما تُعرف بـ"قسد" يُفضي إلى دمجها داخل المؤسسة العسكرية، دون اكتمال التنفيذ حتى الآن، بما يجعل الملف تحدياً للدولة الجديدة بقدر ما هو تحدٍّ للجيش.
تُقاس هذه المقاربة بآليات عملية: تشكيل لجنة ضباط وقياديين لوضع المعايير، وتقييم الفصائل وفق عدد الأفراد والسلاح، ثم إعادة فرز الأفراد ضمن تشكيلات مختلفة.
وتدل هذه الإجراءات، منذ تأسيس الوزارة، على سعيٍ مبكر لتوحيد القرار العسكري بوصفه شرطاً لاحتكار الدولة للقوة، وعلى طرح إعادة التنظيم بوصفها رؤيةٍ لإعادة تعريف الجيش ووظيفته، لا على أنها تقنياتٍ إدارية فحسب.
ملف الضباط المنشقين والعسكريين المحترفين
حمل ملف الضباط المنشقين قيمةً تتجاوز الأرقام، لأنه يَختبر قدرة المؤسسة الجديدة على استعادة الخبرة ثم دمجها في المكان الصحيح ضمن المؤسسة العسكرية. وبالفعل انطلقت خطة وزارة الدفاع مبكراً في عملية الدمج، وصنفت الضباط المنشقين إلى فئتين: نحو 2200 ضابط بقوا ضمن الفصائل بعد انشقاقهم، وفئة ثانية تضم من انشقوا عن نظام الأسد المنهار ولم ينخرطوا في الأعمال العسكرية، وجرى تفعيل 2000 ضابط من أصل 3000 جرت مقابلتهم، ضمن عمليةٍ مستمرة.
وأعلنت الوزارة كذلك برنامجاً لإعادة قبول صف الضباط المتطوعين الذين سبق لهم الانشقاق، في محاولةٍ لاستقطاب خبراتهم ودمجها مع العسكريين الجدد ونقلها إليهم.
ويتوقَّع استقبال نحو 4 آلاف طلب لصف ضباط يرغبون بالعودة، بما يمنح الملف وزناً عملياً في ترميم "الخبرة التشغيلية" داخل الوحدات. بالإضافة إلى برنامج آخر يُتوقَّع إطلاقه قريباً متعلق بالعسكريين المجندين المنشقين، لمنح من يرغب أولوية الانضمام.
ضبط التراتبية والرتب العسكرية
يَفترض بناء جيش جديد ضبطاً صارماً للرتب، لأن الرتبة لا تنظم سلسلة القيادة فقط، بل تُعرِّف "شرعية القوة" داخل المؤسسة.
وتتعامل وزارة الدفاع مع حساسية الملف عبر مسارين متوازيين: تسوية الوضع القانوني وإصدار قانون ناظم، مع الإقرار بوجود "حالات استثنائية" خارج الإطار نتيجة ظروف العمل العسكري الثوري الذي أفرزها.
وبشكل أساسي تعمل الوزارة على الدمج الداخلي على مستوى العسكري داخل الجيش بين ضابطٍ منشق يحمل خبرةً طويلة لكنه انقطع عن الخدمة النظامية، وقائدٍ ميداني شارك في معارك مفصلية دون خلفية أكاديمية، بما يَفرض إيجاد سلمٍ يعترف بالخبرة دون الإخلال بمنطق المؤسسة.
وتبدو لجنة الترفيع التي أعلنها وزير الدفاع سابقاً، اختباراً لموضوعية المعايير وقطع الطريق على المحاصصة الفصائلية، وهي نقطةٌ حاكمة، لأن أي خللٍ في الرتب سرعان ما يتحول إلى خللٍ في سلسلة القيادة والأوامر ويؤثر على الانضباط العسكري الذي يعد أساس الجيوش.
استراتيجية بناء الجيش الاحترافي
يُترجم خيار "الجيش الاحترافي" انتقالاً من فلسفة التجنيد الإلزامي القسري إلى فلسفة الاختيار والتأهيل، مع رهاناتٍ مالية واجتماعية.
وتتبنى الرؤية نموذج التطوع بدلاً من الخدمة الإلزامية، بانتقاء المتطوعين وفق معايير عامة مثل السلامة الجسدية وخلو السجل من الجرائم، ومعايير عمرية لبعض الاختصاصات، بهدف بناء جيشٍ أصغر وأكثر انضباطاً.
يرتبط نجاح هذا التحول بخلق حوافز للتطوع، وبفرز موضوعي بعيداً عن الاعتبارات المناطقية وشبكات الولاء، وبمركزية عالية في التطويع تُدار من الوزارة وفق الحاجة لا من قيادات الفرق. ويُسهم ذلك في الحد من تطويع غير محسوب قد يتحول إلى عبءٍ مالي في مرحلةٍ تحتاج فيها البلاد إلى تنمية قطاعات لا تقل أهمية عن بناء الجيش.
أيضاً، يرتكز الاحتراف على التعليم العسكري بوصفه مصنعاً للهوية المهنية الجديدة. وتشير المعطيات إلى إنشاء عشر كليات عسكرية وتحديث المناهج بما يواكب العلوم الحديثة، مع إيفاد بعثات خارجية للتعليم والتدريب في تركيا والسعودية، وربط التعليم بمسارات الترقية والاختصاص لمنع تحوله إلى بوابة شكلية لمنح الرتب.
واستقبلت الكلية الحربية هذا العام نحو 1000 طالب ضابط لدراسة تمتد ثلاث سنوات، بما يعكس توجهاً نحو بناء رافعة تعليمية طويلة الأمد.
ليس ذلك فحسب، بل تعمل الوزارة كذلك على إخضاع عناصر من الوحدات لدوراتٍ تنظيمية واختصاصية، وربط التدريب بتثبيت الهوية القانونية والإدارية عبر أسماء حقيقية وملفات وصور وبصمات وتدقيق أمني، والانتقال من "الأسماء الحركية" إلى "سجل الدولة"، بما يرفع منسوب المساءلة ويضيّق هوامش الفوضى داخل المؤسسة.
ضبط السلاح
يظل ضبط السلاح الاختبار الأكثر حساسية لسيادة الدولة، لأن الدمج يفقد معناه إنْ بقي السلاح خارج التنظيم الرسمي. ويجري إعداد مسودة قانون بالتعاون بين وزارتَي الدفاع والداخلية لحصر السلاح بيد الدولة وتنظيم حيازته، مع التنبيه إلى أن الفاعلية ستتوقف على القدرة التنفيذية، والتزام القوى المندمجة، ووجود رقابة ومحاسبة تمنع إعادة تدوير السلاح عبر التهريب أو الأطر شبه الرسمية.
تزداد الصورة تعقيداً بفعل انتشار السلاح الفردي بين المدنيين، وغياب نظام ترخيص فعال، وبقاء ترسانات لدى مدنيين أو فصائل غير ملتزمة.
يجعل ذلك "القانونَ" وحده غير كافٍ ما لم يُرفَق بآليات إنفاذ وبدائل تمنع نشوء أسواق موازية. ويبرز هنا شرطٌ توازني: ربط نزع السلاح بضمانات قانونية ومجتمعية للعناصر المقاتلة كي لا تنزلق نحو العنف أو الاقتصاد غير المشروع، بما يضع الملف ضمن إطار الاستقرار الاجتماعي لا ضمن إجراء شرطي فحسب.
بناء عقيدة عسكرية وطنية جديدة
يتطلب الانتقال من جيشٍ عقائدي حزبي قمعي كجيش الأسد إلى جيشٍ وطني، إعادة تعريفٍ صريحة للوظيفة، والرسالة، والعدو، والحدود. ووفق الخطة التي تعمل عليها وزارة الدفاع فإن بناء عقيدةٍ تقوم على حماية الحدود والشعب السوري حاضرة ويجري العمل عليها، والتحول من الولاء الحزبي والوظيفة القمعية الداخلية إلى وظيفة حماية السيادة والدستور، مع التأكيد أن تحويل الإعلان إلى منظومةٍ فعلية يحتاج إلى مراجعة البرامج التعليمية، وخطاب التوجيه المعنوي، وآليات الترقية والانضباط لضمان اتساق السلوك مع القيم الجديدة.
يفتح إدراج هدف الإسهام في "الحفاظ على السلم الأهلي" سؤالاً حاسماً عن حدود دور الجيش في الداخل، لأن نجاح بناء المؤسسة لا يُقاس بالهيكلة وحدها، بل بوضوح المهام والفصل بين وظائف الدفاع ووظائف الأمن الداخلي.
ويُفترض أن تحدد "العقيدة العسكرية" الجديدة ما الذي يُعد تهديداً مرجعياً للدولة؟ وكيف تُدار علاقة الجيش بالسلطة السياسية والمجتمع؟ وما الضوابط التي تمنع تحول "السلم الأهلي" إلى تفويضٍ أمني واسع. وتنبثق من ذلك "العقيدة القتالية" بوصفها سلوكاً قتاليّاً ترجمانياً يضبط "كيفية القتال" عبر قواعد اشتباك وإجراءات قيادة وسيطرة وتدريبٍ ينسجم مع وحداتٍ مختلطة ناتجة عن الدمج، ويُرسّخ التعلم الميداني دون انزلاقٍ إلى أدوارٍ داخلية مفتوحة خارج القانون.
أين يقف الجيش اليوم؟
يُمكن توصيف موقع الجيش السوري الجديد بعد عامٍ على التحرير بأنه يقف في مرحلة ما بعد "تأسيس المعايير" وقبل "استقرار السلوك" ووضع الإطار القانوني الناظم له. ويسجل المسار تقدماً في بناء مركزية قيادة، وفي هندسة دمج تميل إلى تفكيك الفصائلية وإعادة تركيبها، وتشغيل بوابات التأهيل والتعليم وتثبيت الهوية القانونية، مع فتح ملفات الضباط المنشقين وضبط الرتب، بالتوازي مع محاولةٍ لصياغة قانون حصر السلاح وعقيدةٍ جديدة تُعيد تعريف وظيفة الجيش.
يبقى معيار النجاح الفاصل هو تحويل هذه الخطط إلى ممارسةٍ متسقة تحكمها معايير تقييم، وتثبتها التراتبية، ويحرسها الانضباط، وتقاس بقدرة الدولة على التنفيذ بالتزامن مع إغلاق الملفات المفتوحة الأكثر تأثيراً، وفي مقدمتها ملف "قسد"؛ الواجهة السورية لتنظيم PKK/PYD الإرهابي، وميليشيات الهجري، وفلول النظام، وتنظيم داعش الإرهابي.



















