على أنقاض منزله في مخيم النصيرات وسط غزة، يقف محمد الطويل وقد أثقل الفقد قلبه، ينحني بين الركام بيدين مرتجفتين، يزيح حجراً بعد آخر في محاولة يائسة للعثور على أثرٍ لأمه وأبيه وإخوته، ولـ"توتو" الطفلة الصغيرة ذات الأعوام الأربعة التي كانت تملأ البيت ضحكاً قبل أن يبتلعها الصمت إلى الأبد.
كل حجر يرفعه يعيد إليه صوت الانفجار الأول، وكل بقايا جسد تنتشله من تحت الردم تذكّره أن بيته لا يزال قبراً مفتوحاً لعائلته، وأن الذاكرة وحدها هي ما تبقّى له من حياةٍ انطفأت في لحظة.
وبين غبار الغارات الذي لم ينقشع منذ عامين، يبحث محمد مثل آلاف الناجين عن بقايا وجوه وأسماء وذكريات، يرويها للغائبين كمن يرفض تصديق أن الركام صار عنوانه الأخير.
في 9 أكتوبر/تشرين الأول 2023، قصف جيش الاحتلال الإسرائيلي مربعاً سكنياً كاملاً في النصيرات بثلاثة أطنان من المتفجرات.
ضم المجمع أكثر من 60 فرداً من عائلة الطويل، فاستُشهد 54 منهم، بينهم الطفلة المدللة "تكوين" ذات الأعوام الأربعة، ابنة شقيقه والملقبة بـ"توتو"، فيما نجا محمد مع 12 آخرين فقط.
يقول الناجي محمد الطويل (25 عاماً) في حديث لـTRT عربي: "منذ المجزرة لم أتوقف يوماً عن البحث عن أي أثر لعائلتي، أعثر أحياناً على رفاتٍ من العظام، فتوقظ فيّ الحنين ووجع الفقد، كأن الزمن توقّف هناك، أنبش بيدي وأحياناً أستخدم أدوات بدائية تُستخدم في البناء، لأستدل على أي أثر يرشدني إلى أبي أو أمي أو توتو، أتواصل بشكل مستمر مع الصليب الأحمر والدفاع المدني وبلدية النصيرات لانتشال جثامين عائلتي، لكن الجواب واحد: لا معدات كافية".
ويتابع: "أفراد عائلتي ليسوا أرقاماً، كل فرد منهم أحلام وطموحات أن يعيش بسلام وبحياة هادئة دون موت أو قصف، هم في حاجة الآن إلى أن نكرمهم ونخرجهم من تحت الأنقاض وندفنهم بكرامة".
اليوم بعد أن سكتت الحرب على غزة يبقى أمل محمد الأول والأخير أن تتوقف الحرب نهائياً لانتشال جثامين عائلته التي لا تزال تحت الأنقاض ويريد أن يودعهم للمرة الأخيرة حتى وإن كانوا رفاتاً.
محمد ليس وحده في هذه المأساة، فوفق ما يؤكده رئيس لجنة التوثيق والمتابعة في جهاز الدفاع المدني بقطاع غزة، محمد المغير، فإنه يوجد نحو 10 آلاف فلسطيني ما زالوا تحت الأنقاض منذ الحرب الأخيرة.
وأوضح المغير لـTRT عربي أن عمليات انتشال جثامين الشهداء من تحت الأنقاض من أصعب الملفات وأعقدها، تسير ببطء شديد، نتيجة نقص المعدات الثقيلة والآليات اللازمة لإزالة الركام، مشيراً إلى أن ما يجري حالياً هو انتشال للجثامين الظاهرة في الشوارع أو المقابر العشوائية أو المنازل المهدمة جزئياً.
يقول المغير: "منذ توقف الحرب والأهالي يطالبوننا بشكل دائم بانتشال جثامين أبنائهم، وهذا حقهم الطبيعي، لكننا نواجه عجزاً كبيراً في الإمكانات، فالاحتلال يمنع دخول المعدات الثقيلة والمركبات الضرورية التي تساعد في إزالة الركام واستخراج الجثامين".
ازدواجية وغياب معدات
وخلال حديثه قال إن أجهزة الدفاع المدني تمكنت من انتشال 317 جثماناً من تحت الأنقاض، فيما تمكّن بعض الأهالي من إخراج ذويهم بأيديهم باستخدام أدوات بدائية، ليبلغ إجمالي الجثامين التي وصلت مشافي غزة من تحت الأنقاض منذ توقف الحرب على غزة 440 جثماناً.
وطالب المغير المجتمع الدولي والمنظمات الإنسانية بالتعامل مع ملف جثامين الشهداء بحيادية وإنسانية كاملة، بعيداً عن أي اعتبارات سياسية، داعياً إلى الضغط على الاحتلال للسماح بإدخال المعدات اللازمة فوراً، ولا سيما أن عديداً من العائلات لا يزال ينتظر منذ شهور انتشال جثامين أحبائه.
وأضاف أن البروتوكولات الدولية الخاصة بانتشال الجثامين تنص على ضرورة توافر معدات متخصصة لانتشال الرفات وفحصها والتعرف على هوية أصحابها قبل دفنها بطريقة لائقة، موضحاً أن الدفاع المدني يحاول تطبيق هذه المعايير ضمن الإمكانات المحدودة المتاحة.
وتحدّث المغير عن آليات التعرف على الجثامين قائلاً: "نعتمد على بروتوكول خاص بالتوثيق، يتضمّن تعبئة نماذج تُدوَّن فيها علامات وأدلة تساعد في تحديد هوية الشهيد، مثل العلامات الجسدية المميزة، أو موقع العثور على الجثمان، أو المتعلقات الشخصية المحيطة به. بعد ذلك تُرسَل هذه البيانات إلى الطب الشرعي لفحص الأسنان والعظام ومطابقتها".
وأشار إلى أن الاحتلال يمنع دخول أجهزة فحص البصمة الوراثية (DNA) إلى قطاع غزة، ما يضطر الطواقم العاملة إلى الاعتماد على وسائل بدائية وإشارات تقريبية لتحديد هوية الضحايا.
وختم المغير حديثه بقوله: "ملف جثامين الشهداء العالقين تحت الأنقاض يجب أن يُعامل باعتباره ملفاً إنسانياً بحتاً، ويُنفذ وفق البروتوكولات الدولية، فكل جثمان له أهل ينتظرونه وحقه أن يُكرم بالدفن كما يليق بكرامة الإنسان".
ووصف الباحث الحقوقي في مركز الميزان لحقوق الانسان باسم أبو جري تعامل المجتمع الدولي مع مبادئ حقوق الإنسان في قضية انتشال جثامين الشهداء العالقين تحت الأنقاض بـ"الازدواجية في المعايير".
وأضاف أبو جري في حديث له مع TRT عربي أن "المفارقة المؤلمة تكشف حجم التمييز في التعامل مع القيم الإنسانية. تُترك جثامين آلاف الشهداء -بينهم أطفال ونساء- تحت الأنقاض دون أي استجابة أو معدات تساعد في انتشالهم. يجب التعامل مع جثامين الشهداء الفلسطينيين من قِبل الصليب الأحمر كما يتعامل مع جثامين الرهائن الإسرائيليين".
المأساة تتكرر
في حديث مؤلم يختصر مأساة آلاف العائلات الفلسطينية في قطاع غزة، يروي الشاب أنس عرفات تفاصيل الفاجعة التي لحقت بعائلته إثر قصفٍ استهدف منزلهم في مخيم جباليا - حي الزرقاء بتاريخ 14 يوليو/تموز 2025، حين فقد 14 فرداً من أسرته ما زالوا حتى اليوم تحت أنقاض المنزل.
يروي الثلاثيني أنس عرفات لـTRT عربي ما حدث قائلاً: "قبل ساعتين فقط من المجزرة، كنت خارج المنزل، طلبت مني أمي بعض الأغراض من السوق، فيما أوصاني والدي بشراء بعض الأدوية له. كنت أسمع صوت القصف في المنطقة، وطلبت منهم أن يخرجوا فوراً من المنزل، لكن والدي رفض وقال: لن نترك بيتنا".
بعد ذلك بوقت قصير، تلقّى أنس اتصالاً من أحد الجيران أبلغه فيه أن المنزل قد تعرّض للقصف بشكل مباشر. ويشير إلى ذلك بقوله: "لم أصدّق في البداية، حاولت الاتصال بوالدي ووالدتي وإخوتي، لكن لم يُجِب أحد، المنطقة كانت خطيرة جداً، وقوات الاحتلال فرضت طوقاً عسكرياً ومنعت سيارات الإسعاف وطواقم الدفاع المدني من الوصول إلى المكان".
يضيف أنس: "تواصلت لحظتها مع الصليب الأحمر ومنظمات حقوقية، لكن الاحتلال رفض السماح لأي جهة بالدخول أو انتشال الجثامين. علمت لاحقاً أن ابنة شقيقي، هلا، وعمرها 15 عاماً، كانت لا تزال تتنفس بعد القصف، لكنها استشهدت بعد أن انقطعت أنفاسها لعدم تمكن أحد من الوصول إليها، ومنذ ذلك الوقت لم يتمكن أحد من انتشالهم".
ويتابع بصوتٍ متعب: "كل يوم أمرّ بجانب المنزل، أرى المكان الذي كان فيه والدي يزرع نباتاته الصغيرة، والمكان الذي كانت تجلس فيه أمي، أصبح الآن كومة من الحجارة".
ويختم حديثه قائلاً: "انتهت الحرب، لكن عائلتي ما زالت تحت الركام، كنت أتمنى أن أكون أول من يخبر أمي وأبي أن الحرب انتهت". يؤكد أنس أنه ما زال يأمل أن يتمكن يوماً من انتشال جثامين عائلته لدفنهم بكرامة.