وتبرز من بين هذه الجمعيات "إلعاد" التي تنشط في تزوير الرواية التاريخية وفرض سردية استيطانية على معالم المدينة، و"عطيرت كوهانيم" التي تستولي على المنازل في سلوان عبر أدوات قانونية وفَّرتها السلطات الإسرائيلية، و"نحلات شمعون" التي تقود مساعي إخلاء أهالي حي الشيخ جراح.
وتشير منظمات حقوقية إلى أن هذا النشاط المكثف يعكس معركة تهويد متصاعدة تستخدم القانون أداةً مركزية لدفع الفلسطينيين إلى خارج مدينتهم.
يقول رئيس لجنة الدفاع عن أراضي سلوان، فخري أبو دياب، لـTRT عربي: “إن هذه الجمعيات تقاسمت منطقة الحوض المقدس، بحيث استحوذت جمعية (إلعاد) على وادي حلوة ووادي الربابة في الجهة الجنوبية، فيما سيطرت (عطيرت كوهانيم) على رأس العامود وسفح سلوان، فيما تتركز سيطرة بلدية الاحتلال في المنطقة الوسطى، لتبدو القدس مقسّمة النفوذ بين أذرع مختلفة لهدف واحد”.
وبهدف الاستيلاء على الممتلكات داخل البلدة القديمة، تأسست جمعية "عطيرت كوهانيم" في سبعينيات القرن الماضي، ثم توسع عملها لاحقاً نحو سلوان الشرقية.
أما جمعية "إلعاد" فاختص عملها في الآثار، وتهدف إلى طمس الهوية الفلسطينية والإسلامية وكل ما هو غير يهودي، من خلال مشاريع تهويدية مثل نفق سلوان ومدينة داوود.
ويشير أبو دياب إلى أن الجانب القانوني يشكل إحدى أخطر أدوات هذه الجمعيات، إذ تستخدم قوانين مثل «استعادة أملاك اليهود قبل النكبة» و"حارس أملاك الغائبين" و"قانون تسوية الأراضي"، إلى جانب التزوير المنظَّم، لانتزاع العقارات الفلسطينية.
ويضيف أن المفارقة في القدس أن صاحب العقار هو من يُجبَر على إثبات ملكيته، لا من يدّعيها.
حسب أبو دياب، أكثر من نصف ميزانيات هذه الجمعيات تموَّل من وزارات إسرائيلية أبرزها المالية والإسكان، في حين تُقدَّم هذه الجمعيات أمام العالم على أنها "مؤسسات أهلية مستقلة"، فيما هي عملياً أذرع رسمية لتمرير سياسات التهويد تحت غطاء قانوني.
ويؤكد أن الهدف الأساسي هو تصفية الوجود العربي في القدس، والاستيلاء على ما تبقّى من ممتلكات الفلسطينيين، إلى جانب عبرنة الفضاء العام من أسماء الشوارع والمعالم، التي تُستبدل بها أسماء توراتية ودينية.
كما يكشف أبو دياب لـTRT عربي عن أن عدد المستوطنين في سلوان ورأس العامود يُقدّر بنحو 3700 مستوطن، أغلبهم من الأمريكيين، وقد جُذبوا عبر امتيازات كبيرة تشمل إعفاءات من الضرائب وفواتير الخدمات، إضافةً إلى حراسة دائمة تموّلها وزارة الإسكان بميزانية سنوية تصل إلى 100 مليون شيكل.
وبالاستناد إلى ما أورده أبو دياب، فإن الجمعيات الاستيطانية التي تسعى للسيطرة على أملاك الفلسطينيين لا تستحوذ على منازل تدّعي أنها محلّ نزاع بين فلسطينيين ويهود، بل تنتزع منازل الفلسطينيين تحديداً، ثم تستقطب مستوطنين يهوداً وتمنحهم امتيازات عالية لتثبيت وجودهم في المناطق العربية.
تستحضر هذه المعلومات إلى الأذهان قضية عائلة الكُرد في حي الشيخ جراح، حين استولى المستوطن "يعقوب" على نصف منزلهم. فالعقار الذي أُبلغت العائلة سابقاً بقرار هدمه لم يُهدم بعد وضع اليد عليه؛ بل تحوّل وجود المستوطن فيه إلى أمر "قانوني" في نظر سلطات الاحتلال، فيما خسر أفراد العائلة حقهم فيه ولم يعودوا قادرين على استرجاعه.
"شرعية" بلا شرعية
وعلى الصعيد القانوني، قابلت TRT عربي الخبير القانوني منير نسيبة، أستاذ القانون الدولي ومدير عيادة القدس لحقوق الإنسان في جامعة القدس، الذي أكد أن الأساس الذي تقوم عليه المنظومة القانونية الإسرائيلية في القدس غير شرعي من الأصل.
ويؤكد أنه "لا يجوز لسلطة الاحتلال، وفق القانون الدولي، أن تطبق قوانينها الداخلية أو تفرض ولاية محاكمها على الأرض المحتلة، والقدس جزء من هذه الأرض".
ويشير نسيبة إلى أن الجمعيات الاستيطانية تستند إلى مسارات قانونية ظاهرها "استعادة أملاك يهودية" قبل عام 1948، لكن دون وجود روابط حقيقية تثبت الصلة بين تلك الجمعيات والعقارات التي تطالب بها.
ورغم ضعف الأدلة، تنجح تلك الجمعيات في إقناع المحاكم الإسرائيلية بامتلاك العقار، ليُعامل الفلسطيني المقيم فيه على أنه "مستأجر محميّ"، مستندين إلى ما يُعرف بـ"حارس أملاك العدو"، وهو جسم قانوني بُني على التشريعات الأردنية القديمة واستُخدم بعد الاحتلال لصالح المستوطنين.
ويضيف أن الطريق القانوني الثاني البارز يتمثل في "حارس أملاك الغائبين"، إذ تُعد آلاف العقارات التي هُجِّر أصحابها قسراً عام 1948 أملاكاً بلا صاحب، فيضع الاحتلال يده عليها ويسلّمها في معظم الأحيان لجمعيات استيطانية. ويُضاف إلى ذلك إعلان مناطق واسعة بوصفها "حدائق توراتية" أو "مناطق عسكرية" لعزل الفلسطينيين ومنع السكن، كما حدث في سلوان وغيرها.
وفي رأي نسيبة، خاض الفلسطينيون معارك قانونية كبيرة استطاعت أحياناً تأخير مشاريع التهويد، لكن ما ينقص اليوم هي إرادة دولية تُلزم الاحتلال بتطبيق القانون الدولي. يقول نسيبة: "ترتكب سلطات الاحتلال جرائم حرب واضحة، لكن بدل محاسبتها تُمنح شرعية دولية تمكّنها من توسيع الاستيطان في الضفة والقدس، بل حصد ثمار الإبادة في غزة".
معركة يومية لا تهدأ
ورغم ما يبدو من أن العقارات تُؤخذ عبر وثائق وقوانين وإجراءات إدارية، فإن التجربة اليومية تُظهر حجم الضغوط التي يتعرض لها الفلسطيني لانتزاع منزله، وأن الجمعيات الاستيطانية تتخذ سبلاً ملتوية لانتزاع المنازل من أصحابها.
أحد المتضررين (ع.ب) يروي تفاصيل الضغوط عليه لدفعه إلى البيع؛ يقول إنه تلقى عروضاً بمبالغ كبيرة مقابل التنازل عن منزله، لكنه رفض، فبدأت "العقوبات" تتوالى: مخالفات خيالية بدعوى البناء من دون ترخيص، وأخرى بسبب اصطفاف السيارة في المكان ذاته الذي يركن فيه منذ سنوات دون مشكلات. ويتابع لـTRT عربي بوجع: "أثقلوا كاهلي مالياً ونفسياً، لكنني ما زلت أرفض".
أما الأخطر، فكان محاولة الإيقاع به عبر انتحال صفة موظفين من بلدية الاحتلال. يقول: "في يوم ما، تلقيت اتصالاً من شخص يتحدث العربية، وأخبرني بوجود قرار هدم لمنزلي، وأنه سيأتي إلى منزلي بغرض التوقيع على أوراق (قانونية) تتمحور حول تسلم القرار. وقد عشت أسبوعاً كاملاً في قلق لا يُحتمل، قبل أن يلهمني الله وأستشير محامي العائلة الذي اكتشف عدم وجود أي قرار من البلدية. فساورني الفضول، عدت واتصلت بالرقم الأول مراراً ولم يجب أحد. وبعد محاولات عديدة، رد الهاتف، فسألت عن صاحب الرقم ليتبين أن المتصلين ينتمون إلى جمعية استيطانية نشطة في المنطقة... تخيلوا لو وقّعت في لحظة انهياري! كانت ستصبح أوراق بيع، وكنت سأقع في الفخ".
في نهاية اللقاء، أكد (ع.أ) أن محاولات الضغط مستمرة حتى اليوم، لكنَّ موقفه ثابت: "لن أغادر منزلي مهما ضاق الخناق".

















