عائلة أبو عليا كانت أولى العائلات المتضررة في هذا الهجوم، لقرب منزلها من البؤر الاستيطانية. تحصن أفراد العائلة فوق سطح المنزل في محاولةٍ لحمايته من الرصاص والزجاجات الحارقة التي كان المستوطنون يمطرونها عليهم.
مع طلوع الفجر انكشفت الأرقام المثقلة بالندوب والدماء، وآثار النار التي التصقت بالجدران والذاكرة معاً: 16 بيتاً أُحرِقَت وتدمّرت كليّاً، فيما احترق 14 منزلاً جزئياً، وسُرق نحو 120 رأس غنم، وقُتل أكثر من 50 رأساً آخر.
كما أُصيب 76 مواطناً بالرصاص الحي، بينهم 6 أُصيبوا بإعاقاتٍ دائمة، واستُشهد الشابّ جهاد أبو عليا دفاعاً عن المغير.
من هناك بدأت القصة التي غيّرت وجه القرية، وبدأت الاعتداءات التي لا نهاية لها والتي دَفعت أبناءها إلى تشكيل فرقٍ تطوعيةٍ تحمي المغير وتقدّم الإسعاف والإنقاذ في وجه الاعتداءات اليومية.
القرية المقاومة منذ البداية
القرية التي تبعد عن مركز المدينة نحو 35 كيلومتراً إلى الشمال الشرقي، وتبلغ مساحتها أكثر من 43 ألف دونم (قبل مصادرة أراضيها)، يقطنها نحو 4 آلاف نسمة، ويعتمد معظمهم على الزراعة، إذ تشتهر القرية بالزيتون والتين واللوزيات وتربية المواشي.
لكن منذ نهاية السبعينيات، بدأت المضايقات تتصاعد مع شق أول شارع استيطاني في الضفة باسم “شارع آلون”، فصودرت أراضٍ واسعة، إذ تقع 80% من أراضي المغير شرقي الشارع.
بعدها أُقيم معسكر لجيش الاحتلال ومستشفى عسكري ومستودعات للآليات على أراضي القرية، وأقيمت أسلاك شائكة لمنع المواطنين من الوصول إليها.
يقول رئيس المجلس القروي للمغير أمين أبو عليا في حديث له مع TRT عربي: "بدأ الاعتداء والمضايقة من جنود الاحتلال قبل المستوطنين، ثم أصبح بالشراكة معهم ضمن دولةٍ كل القاطنين فيها مجندون".
وعن التجمعات البدوية يشرح أبو عليا: "بدأت مضايقة التجمعات البدوية منذ زمن، إذ لاحق جنود الاحتلال الرعاة بطائرات الهليكوبتر، وفرضوا مخالفات مالية عليهم وسجنوهم، وظلوا هكذا حتى حصروهم في الرعي داخل تجمعاتهم فقط".
بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، يقول أبو عليا: "قُطعت جميع الطرق المؤدية إلى التجمعات البدوية شرقي القرية، وكُثّفت الاعتداءات عليها حتى هُجّرَت التجمعات البدوية كافة خلف طريق آلون شرقي القرية، وهي ستة تجمعات بدوية يسكنها نحو 120 عائلة”.
ويشير أبو عليا إلى أن استهداف القرية يعود إلى موقعها الجغرافي الذي يعوق المشاريع الاستيطانية المعدة مسبقاً، وإلى تاريخها في دعم المقاومة خلال فترة انطلاقة الثورة، إذ كانت نقطة آمنة لتنقل الفدائيين، ووفرت لهم الحماية والمؤونة. وإلى الآن تعتبر المغير مركزاً مقاوِماً.
أما عضو مجلس قروي المغير مرزوق أبو نعيم فيؤكد في حديثه مع TRT عربي أن الاعتداءات تضاعفت بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، إذ وُلد مع الحرب نحو تسع بؤر استيطانية جديدة حول القرية، ينطلق منها المستوطنون للاعتداء على أهالي المغير والقرى المحيطة يوميّاً.
يقول أحد المتضررين، عبد اللطيف أبو عليا (55 عاماً)، وهو الأكثر عرضةً للهجمات لكون منزله الأقرب إلى البؤر الاستيطانية وآخر المنازل في شرقي القرية لـTRT عربي: "أنا الأكثر تضرراً، في المنزل اثنان وعشرون شخصاً، منهم ثمانية أطفال. وبسبب قرب منزلي من البؤر الاستيطانية يحاول المستوطنون إحراقه دائماً بزجاجاتٍ حارقة. أطلقوا النار مراتٍ عدة، واقتلعوا 350 شجرة زيتون من أرضي أنا وحدي”.
وفي الجهة المقابلة من البلدة، أي في غربها، يعاني المواطن فضل أبو عليا اعتداءات مشابهة، ويستذكر أكبر ليالي الاعتداء وأولها: "أسكن في خيمة ضمن تجمع بدوي، وفي تلك الليلة أحرقت لنا ثماني خيام. ولم يكُن ذلك الاعتداء هو الأخير، إذ أحرقت بعدها ثلاث خيام في هجوم آخر”.
وعن سرقة الثروة الحيوانية، يقول لـTRT عربي: "الحياة صعبة هنا، فهم يحاولون دائماً سرقة الأغنام. كلما رأينا مستوطنا قادماً، ركضنا لحماية الأغنام ونقلها إلى مكان آمن. لا خيار لنا، فعندما نتصدى لهم يبتعدون دقائق ثم يعودون مع الجيش، فيصبح الاعتداء مضاعفا”.
فرق المغير التطوعية
كان أول وأكبر هجوم للمستوطنين خلال الحرب عشية الثاني عشر من أبريل/نيسان عام 2024، وهو ما ولّد لدى أهالي المغير حاجةً ملحّة إلى الدفاع عن أنفسهم بأنفسهم، كما يؤكد متطوعو المغير الذين انبثقت عن فرقتهم ثلاث فرق مجتمعة: الدفاع المدني، والهلال الأحمر، والإغاثة الطبية.
يقول المتحدث باسم فرقة متطوعي المغير الذي فضّل عدم ذكر اسمه أو اسم أي شخص من الفرقة، لـTRT عربي: "نعمل متطوعين تحت مظلة المجلس القروي ضمن واقع صعب، إذ يُغلق الاحتلال المدخل الوحيد للقرية قُبيل كل اعتداء، فنُفصَل تماماً عن مركز المدينة، ولا دفاع مدني يطفئ الحرائق، ولا مسعفون ينقذون الجرحى، لذلك أصبحنا نعتمد على أنفسنا في الإنقاذ والإسعاف وإطفاء الحرائق”.
تشكّلت فرقة المتطوعين عام 2025 بعد تضاعف اعتداءات المستوطنين، حيث يقول المتحدث باسم الفرقة: "في أول هجوم بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول كنا عاجزين تماماً. استُشهد جهاد أبو عليا أمام أعيننا ولم نستطع أن نتحرك. منذ ذلك الوقت قرّرنا أن نكون جاهزين في كل لحظة”.
على الصعيد الشخصي، يتحدث الناطق باسم الفرقة عن تلك الليلة التي غيّرت حياته وكانت الأقسى عليه، إذ رأى بيوت القرية تحترق ولم يستطع المساعدة. عائلته وأقاربه وأصدقاؤه جميعهم تضرروا، رأى النار ولم يتمكن من إطفائها، وكل من حاول المساعدة كان في مرمى النار وقُتل. عندها قرّر أن يبدأ رحلته في التطوع.
يقول: "90% من الأحداث التي تقع داخل المغير تحتاج إلى خدمة ذاتية، سواء في إنقاذ المصابين أو إسعافهم أو إطفاء الحرائق، لأن وجود أي حدث، سواء اعتداء مستوطنين أو اقتحام للجيش، يؤدي تلقائياً إلى إغلاق مدخل القرية، لذلك نحن مضطرون إلى إسعاف أنفسنا بأنفسنا وإطفاء حرائقنا وحدنا”.
ويضيف: "مع مرور الوقت، أصبحنا أول المتطوعين في الوصول إلى أي حدث في قرى شرق رام الله، وأكبر فرقة متطوعين موجودة. حتى في كفر مالك وبيرزيت كنا هناك، نجلي الجرحى ونساعد الناس رغم الضرب والغاز”.
يذكر المتحدث ليلة أخرى ويقول: "وقع هجوم في قرية مجاورة هي كفر مالك، وكان هجوماً دموياً قاسياً، لكني كنت حينها ضمن فرق التطوع، فذهبنا فوراً للمساعدة. سقط حينها ثلاثة شهداء، وتعرضنا للضرب من جيش الاحتلال رغم ارتدائنا الزي الرسمي. كانت ليلة قاسية امتلأت فيها ملابسنا بالدماء، لكننا استطعنا بعون الله إجلاء جميع الجرحى، وأنا فخور بذلك".
يقول أحد المتطوعين الذي فضّل عدم ذكر اسمه لـTRT عربي: "فرقة متطوعي المغير أصبحت هدفاً دائماً للاحتلال، بخاصة الدفاع المدني الذي تعرّض للتهديد المباشر بعد استشهاد حمدان أبو عليا عام 2025 في هجوم للمستوطنين، وهو أحد أعضاء الفرقة”.
ويضيف: "نُدرك أهمية وجودنا على الأرض. في أحد الاقتحامات حاصر الجيش منزلاً فيه 32 مواطناً بينهم 18 امرأة و6 أطفال، وأطلق قنابل غاز من النوافذ داخل المنزل، ثم غادر فوراً"، مرفاً: “كنا أمام المنزل ومُنِعنا من الدخول حتى مغادرتهم، وما إن دخلنا لإنقاذهم حتى وجدناهم فاقدي الوعي. إحدى السيدات كانت تعاني أزمة تنفس، وأنقذناها بصعوبة. كانت حالة خانقة جداً وسط حصار كامل للقرية”.
ويتابع في مثال آخر: "الاعتداء ليس يومياً فقط، بل يقع أكثر من مرة خلال اليوم، ليلاً ونهاراً. وقد حوصرت البلدة ومدخلها ثلاثة أيام متواصلة في سبتمبر/أيلول 2025. لولا الاكتفاء الذاتي لدينا، لكنا متنا جوعاً. يجب أن يكون في كل قرية لجان حماية ومتطوعون، لأن الاحتلال قد يعزل أي قرية في أي لحظة”.
وترى المجموعة أن وجودها بشكل رسمي وشامل من دفاع مدني وهلال أحمر وإغاثة طبية يمنحها السلاسة في الحركة لإجلاء المصابين والتدخل في الأوقات الحساسة.
كما ترى أن التطوع رسالة يصبح صاحبها صائداً للأحداث لا منتظراً لمن يطلب المساعدة، ويبادر بالعطاء في مختلف المجالات، وهو ما يوضحه الناطق باسم المجموعة بقوله: "لست صاحب تعليمٍ عالٍ يؤهلني لأن أكون في مركز محدد لتقديم خدمة للبلد، لكنني وجدت أن أسهل وأفضل وأسرع طريقة لخدمة بلدي هي العمل التطوعي”.
ويضيف المتحدث: “لقد أصبحت إنساناً مختلفاً بعد الحرب، أبحث عن الأحداث لأساعد. ذهبت إلى كل الأماكن، وكلها كانت مواقع لهجمات المستوطنين. أشعر أن مساعدة الناس واجب عليّ”.
وعن هجمات المستوطنين، تؤكد المجموعة أنها ممنهجة لا عشوائية، إذ يكمل بعضهم بعضاً في الإيذاء والاعتداء، فبعضهم يحمل أسلحة بيضاء، وبعضهم أسلحة نارية، ومنهم من يختص بالإسعاف والنقل، وآخرون وُكِلَت إليهم مهمة الحرق، وهم أصحاب الحقائب التي تحتوي أدوات الحرق.
أما الهجوم فهو مركَّب ومتكامل، فمثلاً، يهاجم المستوطنون القرية، ويوكل إلى ثلاثةٍ منهم مهمة مهاجمة منزلٍ واحد، أحدهم يكسر الزجاج، والآخر يحرق المنزل، والثالث يقطع الأشجار أو الأسلاك. وهنا لا بد أن يحدث الضرر، فإن لم ينجح أحدهم فسينجح الآخر.
وتؤكد المجموعة أن المستوطنين لديهم طريقة منظمة للتواصل، يرسلون بدايةً أطفالاً، وما إن يُصَدّوا حتى يهاجم المستوطنون المكان بعد دقائق قليلة من جميع الاتجاهات.
وتختتم المجموعة حديثها برسالة إلى المجتمع والمسؤولين بضرورة الأخذ بعين الاعتبار أن أي قرية بعيدة عن مركز المدينة يجب أن يعتمد أهلها على أنفسهم، وأن تضم طبيباً ومسعفاً وكل ما تحتاجه من عناصر الطوارئ، لأن الاحتلال قد يغلقها في أي وقت.
كما تؤكد أن العمل التطوعي أمر بالغ الأهمية، ويجب أن يحظى بالدعم والاحتضان من المجتمع والمؤسسات المحلية بالمعدات اللازمة لمساعدة البلدة، وتعزيز صمود المتطوعين بالكلمة والفعل.













