يدخل هيكل الأمن العالمي حقبة جديدة تُعطي الأولوية لحلول منخفضة التكلفة ودقيقة التأثير، بدلاً من الاعتماد على منظومات تقليدية باهظة ومبطّئة. ومن أبرز تجليات هذا التحول تصاعد استخدام الطائرات الانتحارية (الكاميكازي)، الذي يشي بمنعطف حادّ يُعيد رسم موازين القوة: تقنيات أقل تكلفة وبإمكانها توجيه ضربات نقطية تقصم هيبة مظلات الدفاع الجوي الكبرى والدبابات والمنصات البحرية، وتطعن جدواها القديمة.
الدرس الأول واضح: الأسلحة الصغيرة دقيقة الاشتباك تحتم على الجيوش إعادة ترتيب أولويات الإنفاق والتحول إلى هياكل أكثر توزيعاً ومرونة، تعتمد على شبكات استشعار مترابطة بدل تجمّع الأصول باهظة الثمن في نقاط ثابتة تصبح أهدافاً ثمينة.
أما النتيجة اللوجستية فلا تقل أهمية؛ فاعتماد الكاميكازي يربك سلاسل الإمداد ويستدعي تباعداً في تحركات القوافل، وتعزيزاً لإجراءات التخفي والحماية، وهو ما يكسر رتابة اللوجستيات التقليدية ويقلّص الاعتماد على بنى تحتية ثابتة. باختصار: فروض العمليات التقليدية تُعاد كتابتها، وتتعرض عقائد الحرب القديمة لضغط جوهري.
تكمن الأسبقية التكتيكية لهذه الفئة في قدرتها على خلق أثرٍ نقطي بدلاً من الاعتماد على القصف الواسع: أدوات ضبط زاوية التفجير والتفجير الموجّه تمكّن من تحديد موقع الانفجار ونطاقه وتوجيه طاقته بدقة، ما يسمح بتحييد أهداف عسكرية محددة مع تقليل الأضرار الجانبية للبنى المدنية والسكان.
وأدى انتشار الطائرات الانتحارية إلى تغيير سلوك القوات المدرعة في الميدان، فالفِرق اللوجستية صارت تتجزأ أكثر، تقلّ فترات التوقف، وتزداد مستويات الحماية حول الجسور والممرات ومخازن الإمداد.
وبذلك تنقلب أولويات الدفاع التقليدية: الأنظمة المكلفة تصبح أكثر هشاشة، فيما تتحول الطائرات منخفضة التكلفة إلى أداة محورية في رسم ملامح حرب لا متماثلة جديدة.
وهنا يظهر البُعد الأخلاقي العملي: الدقة تُقرب الأداء من مبادئ التمييز والتناسب، وتقلل إمكانية وقوع خسائر مدنية، خصوصاً في بيئات حضرية مكتظة أو قرب منشآت حسّاسة. كما أن بعض الأنظمة يضيف مرونة تكتيكية إضافية عبر إتاحة إيداع حمولة قرب الهدف وتفجيرها في توقيت محسوب، ما يمنح القادة خيارات متعددة تتلاءم مع متغيرات الميدان وتقلل المخاطر على السكان.
ورغم أن بعض القوات لا يزال يلجأ إلى القصف الواسع باعتباره حلّاً تقليدياً لتعطيل العدوّ، فإنّ الانتشار المتزايد للكاميكازي يقدّم بديلاً عملياً، وربما أكثر إنسانية، إذا ما وُضع تحت إطار قواعد اشتباك صارمة وشفّافة.
تركيا بدورها تواكب هذا التحول، محققة تقدماً ملحوظاً في إنتاج طائرات دون طيار متنوعة، وعلى رأسها منصات بيرقدار، ففي هذا الإطار تبرز منصتا دلي (طورتها شركة Titra) وميركوت (طورتها شركة SAVX Teknoloji) باعتبارهما من المنصات المتكاملة ذات القدرات المتقدمة: تحكُّم دقيق في زاوية التفجير، وأنظمة تعرف متطوّرة على الأهداف، وتشغيل ليل–نهار، وخصائص مقاومة للتشويش الإلكتروني، مؤشرات واضحة على تغيّر معايير الأداء التكتيكي في ساحات العمليات.
أحد أكبر التهديدات في ساحة المعركة الحديثة هو انقطاع وصلات القيادة والسيطرة تحت وطأة الحرب الإلكترونية، وتجاوباً مع ذلك، طورت ميركوت نسخة تعتمد بنية سلكية توفر قناة اتصال مستقرة ومقاومة للتشويش على مدى يتراوح بين 3 و5 كيلومترات، ما يقلّص مخاطر فقدان الربط أو تعطيل أنظمة تحديد المواقع (GPS) ويعزّز الوصول الموثوق إلى الهدف.
تعمل هذه الحلول السلكية كضمانة موثوقية في المهام الحرجة التي تتطلب استجابة فورية وزمن وصول منخفضاً.
إضافة إلى ذلك، جهّزت عائلتا دلي وميركوت آليات طوارئ تُفعل عند فقدان الاتصال، مثل التوجيه التلقائي وفق إعدادات مسبقة أو التدمير الذاتي الآمن، ما يرفع قدرة الاستمرار في بيئات تعج بالحرب الإلكترونية.
وتعتمد المنصات أيضاً على مجموعات مستشعرات متقدمة -كهروبصرية وتحت حمراء- مدعومة بمعالجات صور وتقنيات إدماج بيانات، ما يمكّنها من العمل على مدار الساعة وتمييز الأهداف بدقة: أفراد، عربات مدرعة خفيفة أو متوسطة، أو أهداف ثابتة ذات قيمة استراتيجية.
هذه الدقة تخفّض احتمال الخطأ وتوجّه طاقة الانفجار إلى النقطة المطلوبة بالجرعة الملائمة.
الأثر يتجاوز البعد الحركي فحسب، فهذه القدرات تقلّص التكلفة السياسية والاستراتيجية للصراع. في الحروب المعاصرة، يُقاس النجاح العسكري بقدرته على تقليل الأضرار المدنية، وما توفره هذه الأنظمة من تقييم فوري ومرونة ديناميكية في الاشتباك يقدّم للقادة أدوات لأداء أكثر انتقائية وأقل تكلفة إنسانياً وسياسياً.
جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كتّابها، ولا تعبِّر بالضرورة عن TRT عربي.