وتشير الإيكونوميست إلى أن مبررات إطلاق مشروع FCAS الذي يُفترض أن يدخل الخدمة بحلول عام 2040 ازدادت قوة منذ أن أطلقه إيمانويل ماكرون وأنغيلا ميركل، فالمقاتلات الحديثة أصبحت معقدة وباهظة التكاليف إلى درجة تتجاوز قدرة أي دولة أوروبية على تطويرها بمفردها.
وتضيف المجلة أن الحرب الروسية على أوكرانيا، إلى جانب تراجع الموثوقية في المظلة الأمنية الأمريكية، عززا الحاجة إلى تحقيق "السيادة الدفاعية الأوروبية".
لكن المجلة تؤكد أن الخلافات الصناعية تهدد مستقبل المشروع بأكمله، فشركة داسو للطيران الفرنسية، المسؤولة عن تطوير المقاتلة NGF، تعتبر أن الهيكل الإداري للمشروع بيروقراطي إلى حد الشلل.
وتنقل الإيكونوميست عن رئيسها التنفيذي إيريك ترابيي قوله: "لن أقبل أن يجلس ثلاثة أشخاص حول طاولة ليقرروا كل الجوانب التقنية اللازمة لطيران طائرة عالية الأداء. أعطونا القدرة على إدارة هذا البرنامج".
لكن داسو، حسب المجلة، تجد نفسها في موقف الأقلية أمام شركة إيرباص، التي تمثل كلاً من ألمانيا وإسبانيا، ولا ترغب في أن تكون في موقع تابع لفرنسا داخل البرنامج.
وتضيف الإيكونوميست أن الحكومة الفرنسية تخشى أن يؤدي الإبقاء على قواعد الإدارة الحالية إلى تعطيل الجدول الزمني الحرج للمشروع.
ففرنسا في حاجة إلى مقاتلة جديدة بحلول عام 2040 لتحل محل طائرات رافال التي تشكل جزءاً أساسياً من منظومة الردع النووي الفرنسي، ما يجعل التزام الموعد المحدد مسألة أمن قومي بالنسبة إلى باريس.
ما النظام؟
وفقاً لشركة إيرباص الأوروبية المشاركة في تطوير النظام، فإن نظام القتال الجوي المستقبلي (FCAS) يُعَدّ مشروعاً أوروبياً محورياً يهدف إلى تعزيز السيادة الدفاعية والأمنية للقارة.
يقوم المشروع على تطوير نظام أسلحة من الجيل الجديد (NGWS)، يضم مقاتلات مأهولة حديثة تعمل جنباً إلى جنب مع طائرات مسيّرة، ترتبط جميعها عبر شبكة بيانات متطورة تُعرف باسم السحابة القتالية (Combat Cloud).
هذه الشبكة ستربط الأنظمة العاملة في الجو والبر والبحر والفضاء وحتى الفضاء الإلكتروني، لتتيح تبادل المعلومات بشكل فوري بين الوحدات.
وتهدف هذه المنظومة إلى جعل جميع المكونات -من المقاتلات والطائرات المسيّرة إلى أنظمة القيادة والتحكم- تعمل ككيان واحد، قادر على اتخاذ قرارات سريعة والتكيف مع الظروف الميدانية.
وسيُسمح مستقبلاً بإضافة منصات وتقنيات جديدة بسهولة ضمن هذا النظام المرن، كما ستسهم الدول الأوروبية المشاركة وحلفاؤها بقدراتها الخاصة، ما يجعل FCAS خطوة نحو تكامل دفاعي أوروبي متقدم يعتمد على التعاون والتكنولوجيا المشتركة.
بدائل أمريكية
توضح الإيكونوميست أن ألمانيا، بصفتها عضواً في برنامج المشاركة النووية التابع لحلف شمال الأطلسي (الناتو)، تحتاج بدورها إلى مقاتلات قادرة على حمل أسلحة نووية.
غير أن المجلة تشير إلى أن امتلاك سلاح الجو الألماني لأسطول متزايد من مقاتلات F-35 الأمريكية يجعل التزام الجدول الزمني لمشروع نظام القتال الجوي المستقبلي (FCAS) أقل إلحاحاً بالنسبة إلى برلين.
كما تنقل الإيكونوميست عن مصادر ألمانية وإسبانية تأكيدها أن توزيع العمل بين الشركاء الثلاثة حُدَّد منذ سنوات، وأن أي محاولة لإعادة النظر فيه قد تفتح الباب لمزيد من الخلافات الصناعية والسياسية.
وتضيف أن التوتر بلغ مستويات غير مسبوقة بين الشركاء، إذ بدأ الصبر ينفد لدى جميع الأطراف.
وينقل التقرير عن فولكر ماير-لاي، النائب عن الحزب الديمقراطي المسيحي وعضو لجنة الدفاع في البرلمان الألماني (البوندستاغ)، قوله إنّ شركة داسو الفرنسية لا تتعامل مع المشروع باعتباره "ضرورة استراتيجية"، بل "غنيمة صناعية".
كما تشير الإيكونوميست إلى أن بعض المسؤولين الألمان يرى أن نظراءهم الفرنسيين فقدوا السيطرة على قطاعهم الصناعي، في حين يعتقد فرنسيون أن الشركات الألمانية تسعى لاكتساب الخبرة التقنية الفرنسية على حساب الشراكة المتوازنة.
وتنقل المجلة عن كريستيان مولينغ، مستشار مركز السياسة الأوروبية في بروكسل، قوله إن “الانطباع السائد هو أن الجميع بدؤوا يبتعدون عن هذا المشروع”.
وفي ضوء هذا الجمود، تذكر الإيكونوميست أن برلين بدأت تدرس خيارات بديلة، أحدها يتمثل في شراء مزيد من مقاتلات F-35 وربطها بطائرات مسيّرة تعتمد على تقنيات الذكاء الصناعي، على أمل أن توفر حلولاً عملياتية متقدمة دون الحاجة إلى تطوير مقاتلة جديدة بالكامل، وهو خيار لن يقلل في كل الأحوال من الاعتماد الألماني على الولايات المتحدة.
وتشير المجلة أيضاً إلى خيار آخر قيد النقاش داخل الدوائر العسكرية في برلين، يتمثل في الانضمام إلى البرنامج العالمي للقتال الجوي (GCAP)، وهو مشروع مشترك بين بريطانيا وإيطاليا واليابان، غير أن تقدّمه الكبير يجعل أي انضمام ألماني محكوماً بدور ثانوي ومحدود التأثير.
سوابق فرنسية
وتؤكد مجلة الإيكونوميست أن الرئيس التنفيذي لشركة داسو للطيران، إيريك ترابيي، يرى أن فرنسا قادرة على المضي قدماً بمفردها إذا اقتضت الضرورة، في حال تعثّر مشروع نظام القتال الجوي المستقبلي (FCAS).
ولكن تقديرات أخرى تشكك في ذلك وتشير إلى أن الحكومة الفرنسية المثقلة بالديون ليست في وضع يسمح لها بتمويل مشروع عسكري بهذا التعقيد والتكلفة.
وتوضح المجلة أن انهيار المشروع سيكون ضربة قوية للعلاقات الفرنسية-الألمانية ولطموح "الاستقلالية الاستراتيجية الأوروبية" الذي سعى إليه الرئيس إيمانويل ماكرون منذ سنوات.
وتلفت المجلة إلى أن غياب حكومة مستقرة في باريس يعقّد المشهد أكثر، إذ من المقرر أن يجتمع وزراء الدفاع في الدول الثلاث فور تشكيل الحكومة الفرنسية لمحاولة إعادة المشروع إلى مساره الصحيح.
غير أن المجلة تشير إلى أن الحلول التقنية وحدها قد لا تكفي، وأن مصير المشروع سيظل مرهوناً بقدرة ميرتس وماكرون على التوصل إلى تفاهم سياسي نهائي أو إعلان وفاة مشروع FCAS رسمياً.
ووفقاً لمجلة National Security في ستينيات القرن الماضي، فقد شاركت فرنسا في مناقشات لتطوير طائرة مقاتلة متعددة المهام لتسليح قوات الناتو.
لكن الخلافات حول تصميم الطائرة أدت إلى انسحاب فرنسا، فذهبت شركة داسو لتطوير طائرة Mirage 2000، في مقابل Panavia Tornado التي طورتها بريطانيا وألمانيا وإيطاليا.
وتضيف المجلة أنه في الثمانينيات كانت فرنسا من المؤسسين الأوائل لبرنامج المقاتلة الأوروبية (EFA)، لكنها انسحبت مجدداً بسبب خلافات حول دور الطائرة واستقلال القرار العسكري الفرنسي، ومن ثم طورت فرنسا مقاتلتها المستقلة رافال، التي تشبه في مظهرها المقاتلة الأوروبية Eurofighter Typhoon التي تُستخدم في بريطانيا وألمانيا وإيطاليا وإسبانيا.
وتشير المجلة إلى أن هذه الانسحابات تعكس النزعة الفرنسية التقليدية نحو الاستقلال الصناعي والعسكري، خصوصاً في مجالات الطاقة النووية والطيران. وتعود أسبابها إلى خلافات حول القيادة، ودور شركة داسو تحديداً، والفوارق في الرؤية العملياتية، والاستقلال الاستراتيجي، وسيادة سلاسل الإمداد.