أكبر اقتصاد أوروبي في مأزق.. هل عاد المرض للاقتصاد الألماني؟

في الآونة الأخيرة، وبينما يتصارع الاقتصاد الألماني مع التضخم والانكماش ونقص العمالة، تثار تساؤلات حول ما إذا كانت البلاد المعروفة بمحركها الاقتصادي القوي، معرَّضة لتصبح "رجل أوروبا المريض" مجدداً.

By حسام خضر
أكبر اقتصاد أوروبي في مأزق.. هل عاد المرض للاقتصاد الألماني؟ / صورة: DPA / DPA

نُسب مصطلح "رجل أوروبا المريض" إلى ألمانيا في أواخر التسعينيات، وهي فترة اتسمت بركود النمو الاقتصادي، وارتفاع معدلات البطالة، وعدم الكفاءة الهيكلية. ومع ذلك، جاءت استجابة ألمانيا لهذه التحديات بشكل سريع من خلال سلسلة من الإصلاحات عُرفت باسم "أجندة 2010"، جددت فيها البلاد سوق العمل، وبرامج الرعاية الاجتماعية، والبيئة التنظيمية.

أرست هذه الإصلاحات الأساس لانتعاش الاقتصاد الألماني، وتحويله إلى قوة مدفوعة بالتصدير مع بطالة منخفضة ونمو قوي خلال السنوات اللاحقة. لكن الآثار التي خلّفتها جائحة كورونا، وتلك التي أعقبتها بعد اندلاع الحرب الأوكرانية قبل أكثر من عام، دفعت الاقتصاديين مؤخراً إلى التساؤل عما إذا كان المرض قد عاد إلى الاقتصاد الألماني من جديد، وفقاً لتقرير حديث نشرته دويتشه فيله الألمانية.

وبينما يكافح الاقتصاد العالمي الشكوك الاقتصادية، يَلوح شبح التضخم والانكماش مرة أخرى في الأفق الألماني بسبب ارتفاع أسعار الطاقة ونقص اليد العاملة. فهل ينجح أكبر اقتصاد في الاتحاد الأوروبي في حل معضلة الانكماش؟

البداية مع كورونا

عندما ضرب الوباء لأول مرة، شهدت ألمانيا، مثل كثير من الدول الأخرى، انكماشاً حاداً في النشاط الاقتصادي. فقد أدت عمليات الإغلاق وتعطل سلسلة التوريد وانخفاض الإنفاق الاستهلاكي إلى تراجع كبير. ففي الربع الثاني من عام 2020، سجلت ألمانيا تراجعاً تاريخياً نسبته 10,1% في إجمالي ناتجها الداخلي.

وقد عانى اعتماد البلاد الشديد على الصادرات مع تباطؤ التجارة العالمية، وواجه قطاع التصنيع تحديات غير مسبوقة. واجهت صناعة السيارات، حجر الزاوية في الاقتصاد الألماني، عاصفة كبيرة حيث انخفض الطلب وتسبب انقطاع سلسلة التوريد في إعاقة الإنتاج. لم يؤدِّ هذا إلى انخفاض الناتج الاقتصادي فحسب، بل هدد أيضاً سبل عيش الآلاف من العمال والموردين في جميع أنحاء البلاد.

ظلال الحرب الأوكرانية

وما إن بدأ الاقتصاد يتحسن بعد رفع القيود وانفراج سلاسل الإمداد والتوريد حتى بدأت الحرب الأوكرانية التي أعلن رئيس اتحاد غرف الصناعة والتجارة الألمانية بيتر أدريان، في فبراير/شباط الماضي، أنها ستكلّف الاقتصاد الألماني نحو 160 مليار يورو، وفقاً لما نقلته رويترز.

وأوضح أدريان أن هذه الكلفة تشكل نحو 4% من الناتج المحلي الإجمالي لبلاده بنهاية العام الجاري، وأشار إلى أن دخل الفرد في الاقتصاد الأكبر في أوروبا سيكون أقل بمقدار ألفي يورو عما كان متوقعاً له لولا وقوع الحرب.

من جهته، قال وزير المالية الألماني كريستيان ليندنر، إن بيانات الناتج المحلي الإجمالي الألماني أظهرت "إشارات سلبية بشكل مفاجئ". وأضاف أنه بمقارنة ألمانيا بالاقتصادات الأخرى عالية التطور ، فإن الاقتصاد يفقد إمكانات النمو. وأضاف: "لا أريد أن تلعب ألمانيا في الدوري الذي يتعين علينا فيه أن نخفض أنفسنا إلى المراكز الأخيرة"، في إشارة إلى توقعات صندوق النقد الدولي، الذي توقع حدوث ركود في عام 2023 فقط في ألمانيا وبريطانيا بين الدول الأوروبية.

معضلة الانكماش

كان الاقتصاد الألماني في حالة ركود في أوائل عام 2023 بعد أن استسلم الإنفاق الأسري في المحرك الاقتصادي لأوروبا أخيراً لضغوط ارتفاع التضخم. أظهر تقدير ثانٍ من مكتب الإحصاء نهاية مايو/أيار، أن الناتج المحلي الإجمالي انخفض بنسبة 0.3% في الربع الأول من العام عند تعديله وفقاً لآثار السعر والتقويم. يأتي هذا بعد انخفاض بنسبة 0.5% في الربع الرابع من عام 2022، وفقاً لما نقلته شبكة سي إن بي سي.

وخلال الربع الأخير، شهد الناتج المحلي الإجمالي في ألمانيا ركوداً لم يتغير منذ الربع الذي سبقه، فيما تُظهر جميع المؤشرات الاقتصادية الرائدة انخفاضاً في النمو الاقتصادي. وفي ذلك، قال رئيس معهد (Ifo) للأبحاث الاقتصادية في ميونيخ، كليمنس فوست، إن "الوضع الاقتصادي الألماني يزداد قتامة"، حسب دويتشه فيله.

ويُعرَّف الركود عموماً بأنه ربعان متتاليان من الانكماش. مما يعني أن الاقتصاد عاد ليعاني من الأزمة ذاتها التي ألمَّت به في أواخر تسعينيات القرن الماضي، إذ على مدى الأشهر الستة الماضية انخفضت التوقعات الاقتصادية، ما يعني أن اقتصاد ألمانيا على حافة "الانكماش التقني".

انخفاض الصادرات

وفقاً لبيانات المكتب الفدرالي للإحصاء، التي نُشرت الخميس، أغلق المصدرون الألمان النصف الأول من العام بنمو ضئيل. وزادت صادراتها في يونيو/حزيران بنسبة 0.1% مقارنةً بالشهر السابق لتصل إلى 131.3 مليار يورو. لكنّ اقتصاديِّين استطلعت رويترز آراءهم توقعوا نمواً أقوى بنسبة 0.3% هذه المرة.

وبينما زادت الصادرات إلى دول الاتحاد الأوروبي في يونيو بنسبة 1.3% مقارنةً بالشهر السابق لتصل إلى 71.5 مليار يورو، ظلت الولايات المتحدة الأمريكية الدولة المشترية الأولى: بيعت بضائع بقيمة 12.7 مليار يورو هناك، بانخفاض نسبته 0.2%.

وانخفضت الصادرات إلى الصين بنسبة 5.9% إلى 8.2 مليار يورو، وتراجعت الصادرات إلى بريطانيا بنسبة 0.2% إلى 6.5 مليار يورو. كما انخفضت الصادرات إلى روسيا بنسبة 2.3% إلى 0.7 مليار يورو بسبب العقوبات الغربية نتيجة الحرب ضد أوكرانيا.

ومن المرجح أن يظل النصف الثاني من العام صعباً لبطل التصدير الأوروبي. المزاج في صناعة التصدير الألمانية حالياً أسوأ مما كان عليه منذ أكثر من 3 سنوات، كما اكتشف معهد "Ifo" في استطلاعه الشهري في يوليو/تموز.

قال كارستن برزيسكي، الرئيس العالمي للاقتصاد الكلي في "آي إن جي": "لم تعد التجارة محرك النمو القوي والمرن للاقتصاد الألماني كما كانت عليه من قبل، ولكنها بالأحرى عائق". وأضاف بريجيكي أن احتكاكات سلسلة التوريد والاقتصاد العالمي المجزأ والقدرة المتزايدة على إنتاج الصين للسلع التي اشترتها سابقاً من ألمانيا، كانت جميعها عوامل تؤثر على الصادرات في يونيو.

آفاق قاتمة

قال روبرت هابيك، وزير الاقتصاد الألماني، إن اعتماد بلاده الكبير السابق على روسيا في إمدادات الطاقة أدى إلى الركود، لكن توقعات النمو كانت أكثر كآبة. فيما قال أندرياس شويرل، المحلل في "ديكا بانك": "تحت وطأة التضخم الهائل، سقط المستهلك الألماني على ركبتيه، مما أدى إلى جر الاقتصاد بأكمله إلى أسفل".

ويتوقع الخبراء انخفاض الناتج المحلي الإجمالي في ألمانيا مرة أخرى خلال الربع الحالي. وقد حذّر يورغ كريمر، كبير الاقتصاديين في مصرف "كومرتس بنك" الألماني، من أنه "للأسف لا يوجد تحسن في الأفق"، مضيفاً: "تلقي الزيادات في أسعار الفائدة على مستوى العالم بظلالها أيضاً، خصوصاً أن الشركات الألمانية تعاني من وضع غير مستقر بسبب تآكل جودة مواقعها".

وحسب دويتشه فيله، أشارت دراسة حديثة أجراها مصرف "دي زد بنك" إلى مشكلات أخرى تعانيها الشركات الصغيرة ومتوسطة الحجم، التي تعد "العمود الفقري للاقتصاد الألماني"، تتجاوز إشكالية ارتفاع أسعار الطاقة، على رأسها نقص العمالة الماهرة، والبيروقراطية المفرطة، والضرائب المرتفعة، والبنية التحتية المتعثرة، وتباطؤ الرقمنة، وارتفاع معدلات الشيخوخة في البلاد.

يتناقض وضع ألمانيا مع جيرانها الأوروبيين، حيث تلاشى خطر الركود تدريجياً بفضل انخفاض أسعار الطاقة. في بلجيكا وفرنسا، نما النشاط الاقتصادي بنسبة 0.4% و0.2% على التوالي في الربع الأول من عام 2023 مقارنةً بالربع السابق. فيما شهدت إيطاليا ارتفاع الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 0.5%.

وكما قال غيوم ديجين، المحلل في "غلوبال ماركت إنسايت": "يُنظر إلى ألمانيا على نطاق واسع على أنها الخروف الأسود المحتمل لأوروبا"، وفقاً لما نقله موقع يورو نيوز.