في مدرسة مسقط بالنصيرات، جلست رهف أحمد، طالبة الصف الحادي عشر، على مقعدها من جديد بعد شهور من الانقطاع والنزوح.
غادرت رهف بيتها في جباليا شماليّ غزة مع الأيام الأولى لحرب الإبادة الإسرائيلية، تحمل حقيبة صغيرة ودفاتر غطاها الغبار، دون أن تعرف إن كانت ستعود إلى صفها أو تكمل عامها الدراسي.
تقول لـTRT عربي: "لم أنقطع عن التعلم رغم توقف الدراسة وقت الحرب، كنت أبحث عن إنترنت لأتابع الدروس، أحياناً أقطع مسافات طويلة لأحمّل درساً واحداً. كان الأمر مرهقاً جدّاً، وعائلتي كانت تخاف القصف، لكنّي الآن متشجعة للدراسة من جديد وكلي أمل".
رغم فقدانها بعض صديقاتها تحت القصف، ورغم الاكتظاظ في غرفة الإيواء التي تعيش فيها أسرتها، لم تتخلَّ رهف عن حلمها بأن تكون الأولى على صفها.
تضيف: "عندما أعود من المدرسة لا أجد مكاناً أدرس فيه. نعيش في غرفة واحدة، لكنّي أقاوم من أجل التعلم، فالدراسة هي الشيء الوحيد الذي يجعلني أشعر أن الحياة ما زالت ممكنة".
تبتسم بخجل وتضيف: "رجعنا ندرس بلا زي مدرسي، بلا طابور أو نشيد الصباح ورفع علم، لكن بمجرد أن أفتح كتابي وأرى صديقاتي، أشعر أن الحرب لم تنتصر علينا".
رهف، مثل كثير من طلبة غزة، تحاول أن تبدأ من جديد وسط الركام. المدرسة لم تعد كما كانت، لكنها ما زالت نافذة صغيرة على الحياة.
التعليم ينهض وسط الدمار
في إحدى غرف مدرسة مسقط بالنصيرات، كانت المعلمة شيرين القيق، في الثلاثينيات من عمرها، تمسك قطعة طبشور صغيرة تآكلت أطرافها، وتكتب على السبورة معادلة رياضية بصبرٍ يشبه المعجزة.
أمامها تجلس رهف أحمد وزميلاتها، بعضهن عائدات بعد عامين من الحرب والنزوح، بعيونٍ تحاول أن تتذكر ما تعلّمته قبل القصف والانقطاع.
تقول القيق لـTRT عربي: "في أساسيات التعليم عجز كبير، وضغط نفسي هائل على الطالبات والمعلمين. كثير من الطالبات يأتي من مسافات بعيدة، بعضهن يعاني الجوع أو الفقد، لكنهن ما زلن يحاولن التعلم”.
وراء تلك الجملة البسيطة مشهد أكبر لقطاعٍ يحاول أن ينهض من تحت الركام، فبحسب المكتب الإعلامي الحكومي في غزة، حُرم أكثر من 785 ألف طالب و25 ألف معلم مواصلة التعليم خلال الحرب، وتَعرَّض 95% من مدارس القطاع لأضرار مباشرة أو جزئية، فيما أصبح أكثر من 90% من الأبنية المدرسية بحاجة إلى إعادة بناء أو ترميم شامل.
لكن الخسارة الكبرى لم تكن في الجدران، فوفق الإحصاءات ذاتها، استُشهد أكثر من 13,500 طالب و830 معلماً، إضافة إلى 193 أكاديميّاً وعالماً.
تشرح القيق وهي تنظر إلى السبورة المتهالكة، أن التحدي اليوم لا يتعلق فقط بالكتب أو البنية التحتية، بل بـ"إعادة بناء الإنسان نفسه".
تقول: "الطالبات فقدن بيوتهن وأصدقاءهن وأمانهن. مع ذلك، عندما أراهن يرفعن أيديهن للإجابة، أشعر أن شيئاً في هذا المكان ما ما زال حيّاً".
في خان يونس جنوبيّ القطاع، يقف الطفل عمر جلال (13 عاماً) بين أنقاض مدرسته "القطان الأساسية"، يصطفّ مع زملائه في طابور بسيط وسط الغبار. لا جدران سليمة ولا مقاعد مرتَّبة، لكن الفرح بعودة الدروس يبدو واضحاً على وجهه.
يقول عمر لـTRT عربي: "فقدت بيتي وسبعة من عائلتي، لكنّي أحب الدراسة. أمي تتابع معي دروسي في الخيمة".
يبتسم ويضيف: "لا كهرباء، لا حياة طبيعية، لكن أريد أن أواصل وأتعلم".
المهارات المعرفية
من مكتبه في مديرية التربية والتعليم بالوسطى يقول محمد حمدان لـTRT عربي، إن استئناف التعليم بعد وقف إطلاق النار جاء لتعويض عامين من الانقطاع، من خلال فتح المدارس التي لا تزال صامدة جزئيّاً، وترميم بعضها، وإنشاء نقاط تعليمية داخل مراكز النزوح والمخيمات.
يوضح حمدان أن الوزارة وفّرت "مقاعد دراسية" لمعظم الطلبة، لكنه يضيف: "عندما نقول مقاعد، لا نعني طاولات وكراسي. الطلاب يدرسون على الأرض أو في فصول مهدَّمة، على الحصير، وبجهود معلمين متطوعين".
بدأ العام الدراسي 2025/2026 رغم استمرار وجود آلاف النازحين في المدارس، التي قُسّمت بين صفوف دراسية وأخرى لإيواء العائلات، وتحويل الساحات إلى فصول مؤقتة. في المنطقة الوسطى وحدها افتُتح نحو 23 مدرسة تعليمية.
يشرح حمدان أن الطلاب يتلقون 12 حصة أسبوعياً فقط، على مدار ثلاثة أيام، أي نحو ثلث الجدول المعتاد، مع التركيز على الموادّ الأساسية: العربية والإنجليزية والرياضيات والعلوم.
يضيف أن الوزارة اعتمدت ثلاثة مسارات تعليمية: الوجاهي، والإلكتروني، والصفوف الافتراضية (TEAMS)، لكنها تواجه صعوبات بسبب انقطاع الكهرباء وضعف الإنترنت.
ويشير إلى أن التجربة الحالية تحاول التركيز على التفكير والفهم أكثر من الحفظ، مستفيدة من تجربة التعليم خلال جائحة كورونا.














