تعيش ذيبان على أمل الإفراج عن ابنها المعتقل في السجون الإسرائيلية، مترقبة لحظة تُعيد إليها بعضاً مما سلبته سنوات القتل والغياب.
داخل منزلها المتآكل في بلدة جديدة الفضل بريف دمشق الجنوبي، تُقلّب جميلة صور أبنائها الأربعة على هاتفها المحمول.
ومع كل صورة تستعيد بحرقة تفاصيل اعتقال نجلها محمد (40 عاماً)، فيما تجلس إلى جوار أحفادها محاطة بفريق وكالة الأناضول، في محاولة لإيصال صوتها ومعاناتها وسط ما تصفه بـ"التهميش الكبير".
ذيبان، الحاصلة على الجنسية الأردنية والمنحدرة من أصول فلسطينية، تقول ودموعها تملأ عينيها: "أملي الوحيد ما زال معلّقاً بلقاء ابني محمد محسن أحمد، المعتقل في سجون إسرائيل، بعدما فقدت ثلاثة من أبنائي. اثنان قتلهما نظام الأسد، والثالث غيّبه المرض".
ورافعة يديها إلى السماء، تدعو الأم بفرج قريب لابنها، معربة عن أملها في أن تراه مجدداً قبل أن يداهمها الموت. وتؤكد أنها لم تتلقَّ أي خبر عنه منذ اعتقاله في 5 فبراير/شباط الماضي من قرية أم اللوقس في ريف القنيطرة الجنوبي، مشددة على أنه لم يكن منخرطاً في أي نشاط عسكري، بل يعمل في مهنة حرة كسائر أبناء القرية.
وتوضح ذيبان أنها قصدت مكتب الأمم المتحدة في حي المالكي بدمشق، حيث أُبلغت بأن ابنها محتجز في سجن عوفر الإسرائيلي، من دون تقديم أي تفاصيل إضافية، أما أطفاله، وهُم ولدان وبنت، فتقول إنها تتولى رعايتهم، فيما يترقبون جميعاً لحظة الإفراج عن والدهم.
إخفاء وقتل
ومستعيدةً ذكريات نجلها الآخر محمود، تُشير الأم إلى أن نظام بشار الأسد المنهار اعتقله عام 2014 من مدينة قطنا بريف دمشق، ولم يُعرف له أثر منذ ذلك الحين. وتقول إنّ محمود كان في السابعة عشرة من عمره وقت اعتقاله، مضيفة: “بحثنا عنه في كل مكان، في المشافي والمخافر، وسألنا عنه في السجون، وتوسلنا إلى أكثر من ضابط، لكن بلا جدوى”.
وبقيت الأم متشبثة بالأمل حتى لحظة سقوط نظام الأسد في 8 ديسمبر/كانون الأول 2024، على أمل أن يظهر محمود بين آلاف المعتقلين الذين أُفرج عنهم. وتتابع بحرقة: “تفحّصت وجوه معظم من خرجوا من السجون فلم أجده.. ما أقسى أن يصبح حلم الأم العثور على قبر، أو حتى شاهد قبر لابنها”.
وأمام صورته، خاطبته باكية: “الله يرحمك يا أمي، ويجمعني بك في الجنة، ويرضى عنك في الدنيا والآخرة… يا محمود، قلبي وروحي راضيان عنك يا ولدي”.
أما ابنها الثالث فتروي ذيبان قصته قائلة: «اسمه صُدَيف. انشقّ عن جيش التحرير، الذي كان يتبع إدارياً للجيش السوري قبل حله بعد سقوط النظام، والتحق بصفوف الجيش الحر آنذاك، إلى أن استشهد في إحدى المعارك بتاريخ 6 يونيو/حزيران 2016”.
وتوضح أن صُدَيف كان يبلغ من العمر 23 عاماً عند استشهاده، وكان متزوجاً وله ابنة تعيش اليوم في كنفها إلى جانب بقية أحفادها. وتضيف أنه تيمناً باسمه أطلق شقيقه محمد، المعتقل حالياً لدى إسرائيل، اسم صُدَيف على أحد أبنائه.
ومع احتضانها صُدَيف الصغير، تحبس الجدة التي ارتدت السواد دموعها، وترفع يديها بالدعاء، متمنية الفرج القريب لابنها محمد من سجون إسرائيل.
ثوب الحزن
وأمام هذا الفقد المتعدد، لم يمهل الموت الأم المكلومة طويلًا، فاختطف نجلها الرابع منيزل (مواليد 1981) بعد فترة قصيرة من اعتقال شقيقه محمد.
وتوضح الأم أسباب وفاته قائلة: "كان يعاني نزيفاً في المعدة، وبعد اعتقال أخيه من قبل إسرائيل تدهورت حالته بشكل كبير، إلى أن توفي".
وبصوتٍ يختلط بالبكاء، تضيف: "أكثر ما يؤلمني في قصة منيزل أن شقيقه المعتقل لا يعلم بوفاته حتى الآن"، متسائلة بحسرة: "كيف سنخبره بعد الإفراج عنه؟ وكيف سيكون رد فعله؟".
في ظل هذه المآسي المتلاحقة، تناشد ذيبان الأمم المتحدة والمؤسسات المعنية التدخل للإفراج عن نجلها محمد، مشيرة إلى عزمها التوجه إلى السفارة الفلسطينية في دمشق، أملاً في أي مساعدة ممكنة.
إلى جانبها، تجلس آمنة عواد، زوجة ابنها المعتقل، وقد ارتدت ثوب الحزن وهي تراقب أطفالها الذين يترقبون عودة والدهم.
وتروي تفاصيل اعتقال زوجها قائلة: "اقتحم الجيش الإسرائيلي منزلنا ثلاث مرات بعنف شديد، كسروا وخربوا كل شيء، وكانوا في كل مرة يسألون عن سلاح ثقيل، فنؤكد لهم أننا مدنيون ولا علاقة لنا بالسلاح".
وتتابع: "في الاقتحام الثاني قيّدوا زوجي واحتجزوه في منزل مجاور، لكنهم لم يعتقلوه. استغللت الفرصة، وعُدت مسرعة وفككت القيود وأنقذته"، غير أن المحاولة لم تنجح في المرة الثالثة، إذ أصر محمد على البقاء في منزله رغم تكرار الاقتحامات.
وتضيف الزوجة: "دخلوا هذه المرة وهم يتحدثون العربية بلهجة قاسية. حاول زوجي إقناعهم بعدم اعتقاله، وقال إن أطفاله بلا معيل سواه، لكنهم ردوا عليه ببرود: ودّع أطفالك".
وتوضح أن الجنود وجّهوا إليها شتائم نابية، وسحبوا محمداً أمام أطفاله «الذين انفجروا بالبكاء والصراخ، فيما اقتادوه غير آبهين. ومع انهمار دموعها، تؤكد آمنة: "زوجي عامل بسيط، لا ينتمي إلى أي نشاط عسكري، ولم يعثروا في منزلنا على أي سلاح".
وعن حال أطفالها بعد اعتقال والدهم، تقول: "مشهد الاعتقال لم يفارق ذاكرتهم، ما زال حاضراً في مخيلتهم".
وتضيف: "بسبب الفقر بعد غيابه، اضطررت إلى العمل في مجال التنظيف لإعالة أطفالي الصغار، بعدما فقدوا معيلهم الوحيد"، وتشير إلى أن العائلة نزحت مرات عدة منذ سبتمبر/أيلول 2013، على وقع التدهور الأمني في المنطقة.




















