لم تأتِ الحربُ على دماء الغزيين فحسب، بل التهمت من أموالهم ما يقربُ المليار دولار، سُحبت عنوةً من جيوبهم على مدار عامين كاملين، كان الغزّيّون يبحثون فيها عمَّن يوفر احتياجاتهم من السلع مقابل مبالغ مالية باهظة يدفعونها مُكرهين.
إفلاسٌ تدريجيّ وممنهجٌ لعلّ صورته الأبرز تتشكل على هيئة سؤالٍ يوميٍّ يتكرر على لسان أهالي غزة: "بكم سعره اليوم؟".
وفق الآليّة الغامضة لتنسيقات التجار التي يديرها الاحتلال الإسرائيلي منذ بداية الحرب، ما زالت أموال الغزيين تنزفُ مقابل شرائهم الأساسيات باهظة الثمن.
رئيس الغرفة التجارية في قطاع غزة عايد أبو رمضان، صرّح لـTRT عربي بأن الاحتلال الإسرائيلي يسمح لعدد من التجار لا يتجاوز العشرة بشراء التنسيقات لإدخال البضائع، بعد الموافقة على نوعيات وكميات معينة منها، وتوقيت دخولها، فيما يُحرم الجانب الفلسطيني الرسمي من أي دور رقابي على المعابر سواء في الإحصاء الدقيق للشاحنات، أو فحص جودة البضائع وصلاحيتها.
ويوضح أبو رمضان: "هذا الغياب شبه الكامل للرقابة، إضافةً إلى سيطرة إسرائيلية مطلقة على حركة البضائع، خلق بيئة مثالية لظهور سوق موازية للتنسيقات غير القانونية، تعمل وفق ثلاث مستويات متصاعدة من التكلفة والخطورة".
سلسلة إجرامية
يوضح أبو رمضان أن عملية التنسيق تمرّ بمستويات، إذ تبدأ بمجموعة محدودة من التجار تمنحهم إسرائيل إذناً ثابتاً بإدخال البضائع إلى غزة، يُسمح لكل منهم بإدخال ما يصل إلى 20 شاحنة يومياً، وحين لا يملك التاجر البضائع الكافية لتعبئتها، يستغلّ التصاريح الممنوحة له عبر بيع تنسيق الشاحنات المتبقية لتجار آخرين داخل غزة، مقابل رسوم تبدأ من 80 ألف شيكل للشاحنة الواحدة، تختلف حسب نوع البضاعة التي ستحملها، الأمر الذي جعل تصاريح الدخول نفسها سلعة تُباع وتُشترى.
يكمل أبو رمضان: "الأكثر تعقيداً، والذي يشبه في طريقته عمل شبكات المافيا، هو المستوى الذي يلجأ من خلاله التجار إلى دفع مبالغ كبيرة لجهات وسيطة في الضفة الغربية لإدخال بضائع ممنوعة على تجار المستوى الأول؛ كالملابس والقرطاسية والمكسرات، والعصائر والبيض واللحوم". لافتاً إلى أن التاجر يحصل بذلك على تنسيق خاص يُتوقع أن تصل أثمانه إلى جهات إسرائيلية مسؤولة عن إصدار هذه التسهيلات، واصفاً إياها بأنها تجارة ذات طابع مافيوي، تُدار عبر وسطاء وشبكات نفوذ، وتُحدد فيها الأسعار حسب العرض والطلب، أو وفق التسهيلات التي تمنحها إسرائيل.
التنسيق الأخطر
يضيف أبو رمضان: "المستوى الأعلى تكلفةً والأشد سريةً في عملية التنسيقات هو طريقة إدخال السلع التي يصفها الاحتلال الإسرائيلي بأنها ذات الاستخدام المزدوج، كألواح الطاقة الشمسية ومولدات الكهرباء ومضخات المياه وقطع الغيار والهواتف وأجهزة الحاسوب، التي يُمنع كلياً إدخالها إلا عبر تنسيق خاص يُتاح لعدد محدود جداً من التجار، تتراوح رسوم التنسيق على الشاحنة الواحدة منها بين 3 ملايين و9 ملايين شيكل، وتُدخل هذه البضائع عادةً عبر شاحنات إسرائيلية ذات لوحات صفراء، لا يُعرف المسؤول عنها على وجه الدقة ولا كيفية إدارة توزيعها في غزة".
يفسر المحلل الاقتصادي أحمد أبو قمر، في حديث له مع TRT عربي، ضخامة المبلغ الذي أعلنته الغرفة التجارية في قطاع غزة بالقول: "مع دخول عشرات الشاحنات يومياً على مدار عامين، بآليات تنسيق مدفوعة، تصبح الأرقام (المليارية) مبرَّرة"، وهو ما يعده أبو قمر تمويلاً إسرائيلياً لحرب اقتصادية من جيوب الفلسطينيين أنفسهم.
وفي توضيحه حول عدم قانونية كل ما سبق، يشير إلى أنّ نظام الاستيراد في غزة من المفترض أن يسمح لأي تاجر يحملُ سجلاً تجارياً بالحصول على أذون استيراد من وزارة الاقتصاد، ثم تمر البضائع عبر التنسيق من الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي الذي يجبي بدوره ضرائب المقاصة من السلطة.
ويتابع: "نظام الاستيراد كان مفتوحاً أمام التجار باستثناء المواد المصنفة (ثنائية الاستخدام) وسلع أخرى يملك وكلاء محددون حق استيرادها، لكن هذا النظام انهار كلياً بعد الحرب، لتنشأ شبكة تنسيق جديدة تستفيد منها أطراف فلسطينية من غزة ورام الله، بالتنسيق مع مسؤولين إسرائيليين متورطين بفرض رسوم خيالية على إدخال البضائع".
ويضيف أبو قمر: "أحد هذه النماذج هو تاجر فلسطيني يتحكم بملف الوقود وغاز الطهي حالياً، كان قد أوشك على الإفلاس قبل الحرب، لكنّ الصادم أن أرباحه حالياً تتراوح بين 250 و300 ألف شيكل، يومياً وهي أرقام خيالية تُجبى من جيوب المواطنين عبر السوق السوداء التي يُباع فيها الغاز للمواطنين بأسعار خيالية. ويتكرر الأمر مع تجار آخرين يدّعون إدخال عدد معين من الشاحنات، فيما يبلّغون عن نصفها، ليحتفظوا بالبقية لزبائن محددين أو بيعها ضمن سوق سوداء، الأمر الذي يجعل عملية إحصاء الشاحنات فوضوية وغير دقيقة كما لا تتبع أي جهة أيضاً".
طرف إضافي
وعمَّا إذا كانت المؤسسات الإغاثية الدولية تلعب دوراً في قضايا التنسيقات، يكشف أبو قمر: "تروّج مؤسسات معروفة بعينها لدخول 90 شاحنة مساعدات مثلاً، في حين تبيع نحو 60 شاحنة للتجار، وتُوزّع فقط 30 شاحنة كدعم مباشر للمواطنين".
ويضيف متسائلاً: "لماذا ينسِّق برنامج الغذاء العالمي لإدخال مساعدات لا يحتاج إليها المواطن، مثل العدس والمعلبات الرديئة، في حين أنه كان يمكنه شراء سلع أكثر أهمية من الأسواق المصرية أو التركية؛ كالبيض والدواجن ويقدّمها مساعدات؟"، مستنكراً الدور المتبادل بين هذه المؤسسات والاحتلال الذي يُدخل كميات كبيرة من السلع الكمالية، مثل: الشوكولاته، فيما يقيِّد أو يمنع السلع التي يحتاج إليها السكان للبقاء، مثل: الخيام والكرفانات والأخشاب والإسمنت.
وفي المحصلة تحاول هذه السياسة الممنهجة تركيع السكان عبر التحكم الكامل في سلاسل الإمداد، ومَنح الامتيازات لفئة صغيرة من التجار، ودفع ملايين الشيكلات، التي ينتهي جزءٌ منها لدى جهات إسرائيلية غير معلنة، لتشن بذلك إسرائيلُ وأعوانُها في الخفاء، حرباً اقتصادية لم تنتهِ بعد.

















