عادة ما تذهب الذاكرة لأحداث النكبة إلى وصف القوات الإسرائيلية التي تسببت في تهجير أكثر من 750 ألف فلسطيني بالعصابات اليهودية. غير أن الوثائق البريطانية والإسرائيلية والواقع كذلك أظهرت أن هذه التشكيلات لم تكُن مجرَّد عصابات، بل نواة جيش منظَّم يمتلك بنية عسكرية واستخباراتية وخططاً نفسية واجتماعية متقدمة.
هذه المفارقة في التسمية والتصنيفات تعود اليوم للحضور بقوة في الضفة الغربية، حيث يتموقع عنف المستوطنين ويزداد، فيما يُشار إليهم إعلامياً وسياسياً بـ"المليشيا والعصابات والجماعات"، وهو توصيف لا يتوافق مع حقيقة الفعل والأثر، ومنهجية العمل الذي ينطلق منه عنفهم.
من هذه المفارقة تسعى السطور التالية لتسليط الضوء على "جيش المستوطنين" في الضفة الغربية المحتلة بخاصة ما يُعرَف بمجموعات "فتيان التلال"، وتشكيلاته وبنيته العسكرية والتنظيمية، وارتباطاته بالجيش والمؤسسة السياسية والعسكرية الإسرائيلية، لتحقيق هدفٍ نهائي واحدٍ مُجمَعٍ عليه "ضم أكبر مساحة من الأرض بأقل عدد من الفلسطينيين".
الأصول الخلاصية
على وقع هزيمة أكتوبر 1973 دخل الجمهور الإسرائيلي في أزمة إعادة تقييم أداء الحكومة وسياساتها، فيما دفع المتدينون نحو "الخلاص اليهودي" بتسريع بناء المستوطنات والتحضير لاحتلال أراضي الـ1967 لتمكين الاستيطان فيها.
حينها ظهرت النواة الفكرية لمنظمة غوش أيمونيم -كتلة المؤمنين- من رحم تعاليم الحاخام الأرثوذكسي أبراهام إسحاق كوك وتفسيرات ابنه الحاخام تسفي يهودا كوك، وبرؤية تعتبر الاستيطان في الضفة الغربية -يهودا والسامرة- أهم محطات الخلاص و"ظاهرة يتجلّى فيها تقديس اسم الربّ".
لكن الولادة الرسمية للمنظمة جاءت إبان حرب 1967 حين سقطت الضفة الغربية وقطاع غزة في يد الاحتلال الإسرائيلي، ما اعتُبر "معجزة إلهية".
فانطلقت المنظمة تستلهم من الأراضي المحتلة خصوصيتها الدينية الجديدة، بدءاً بجولات طلاب المعاهد الدينية في الضفة الغربية، ومروراً بالسيطرة على المواقع الدينية والأثرية، وانتهاءً بمزاوجة ذلك مع فكرٍ أمني يرى أهمية الاستيطان لتثبيت الحدود الجديدة، وجعل الانسحاب مستحيلاً دينياً وتقنياً.
ومن الخليل إلى نابلس بدأ تطبيق نهج "إسرائيل الكبرى" بتأسيس مستوطنة كريات أربع عام 1968 في الخليل، ومن ثم مستوطنة ألون موريه شرق نابلس 1974، تلتها مستوطنة عوفر شمال شرق رام الله عام 1975، وكدوميم قرب قلقيلية عام 1975، ومعاليه أدوميم شرق القدس 1975 -نواة القدس الكبرى- وأرئيل شمال نابلس عام 1978، ومن ثم بيت إيل وشيلو عام 1978.
لتكتمل الخريطة مطلع الثمانينيات بوجود استيطاني كامل يحيط المدن الفلسطينية، ويثبت النواة الجغرافية لتشكيلات المستوطنين، ويعزّز قدرتهم على فرض السيطرة وممارسة العنف ضد الفلسطينيين، تحقيقاً لرؤى توراتية تعتبر المستوطن "جندي الأرض الدائم".
نتيجة لذلك انخرط مستوطنو الأراضي المحتلة في وحدات الجيش القتالية، في جمعٍ نادر بين الآيديولوجيا الدينية والخدمة العسكرية، وكونوا النسبة الكبرى من جنود المشاة والوحدات القتالية (غولاني وجفعاتي).
كما أخذوا على عاتقهم مهمة حراسة المستوطنات وتأمينها، ما دفع الحكومة لمدهم بالدعم والسلاح ودعم توسعهم وإقرار مستوطناتهم ضمن منظومة خدماتها.
جيل الاستيطان الثالث
ومن الجيل الأول والثاني لغوش أيمونيم، نشأ عام 1998 "فتيان التلال"، جيلٌ جديد يُحارب "سيادة أوسلو"، مدعوماً ببركات حاخامات المستوطنات المسيانية، وفكرهم المحدّد للاستيطان فعلَ خلاصٍ دينيّاً لا يقل قدسية عن العبادة، وللضفة الغربية باعتبارها جزءاً من الوعي الإلهي للشعب اليهودي، وبنظرة إلى الفلسطيني تنزع عنه حق الوجود، فهو "غريب غير ذي حق"، وبهدفٍ واحد هو السيطرة على الأرض فعلاً يومياً للمستوطن، يقوم به وفق تراتبية "حوما ومفدال" الاستيطانية: ازرع شجرة، ضع بؤرة، اقطع طريقاً، هاجم مزرعة، ضع سياجاً وبرجاً، والأرض لك.
وفقاً للباحث في الشأن الإسرائيلي خالد عودة الله، فإن تشكيلات المستوطنين ليست خارجة عن الأطر الاجتماعية والسياسية لدولة الاحتلال، بل هي الممثل الحقيقي للاستيطان الشعبي، والمحرّك الخفي للاستيطان الرسمي.
تتراوح أعمار هؤلاء المستوطنين عادةً بين 15 و35 عاماً، ويقوم وعيهم السياسي والديني على استلهام صورة اليهود الأوائل وعلاقتهم بالأرض (الحلوتسيم)، والسعي لفرض وقائع ميدانية تجسّد ما يعتبرونه حقاً دينياً وتاريخياً لليهود.
تشكيلات جيش المستوطنين
ورغم أن بداية الاستيطان في الضفة الغربية جاءت عبر منظمة دينية، فإنها سرعان ما وجدت طريقها للمأسسة والتنظيم الحكومي والدعم الرسمي، فهواجس السيطرة على مصادر المياه، وتوزيع المستوطنات وفق مبادئ أمنية عسكرية، وإحاطة القدس بجدار من المستوطنات لمنع فصلها وتقسيمها، وتنامي الزيادة الديموغرافية الفلسطينية، حولت جيش المستوطنين إلى ذراع تنفيذية بمهمة أمنية وسياسية منسجمة مع استراتيجية الدولة.
وهكذا انطلق جيش المستوطنين من "فتيان التلال" و"جماعات تدفيع الثمن" و"فتيات التلال" و"شبيبة لاهافا" و"حركة كاهانا حي" و"فتية بات عين" و"خلايا الانتقام" و"جماعات نحالاه" و"حراس التوراة والمستوطنون الرُّحَّل"، وغيرها من الجماعات.
ولم يقتصر الفعل على هذه الجماعات، بل عُزّز بدعم لوجستي واستخباراتي استيطاني عبر لفيفٍ من المنظمات الشعبية والدينية، منها منظمة ريغافيم المتخصصة في تحجيم "التوسع الفلسطيني" وتصدر دعاوى الهدم لمنازلهم، ومنظمة هيداشا التي تنسّق بين اليمين الديني والسلطات الحكومية ولجان المستوطنات كدوميم وبيت إيل وعوفر، ومنظمة نخالا التي تنطلق من مبدأ هندسي في إنشاء البؤر الجديدة وجمع التمويل اللازم لها، لتغدو فتيان التلال اليد الضاربة، بينما أصبحت المنظمات العقل البيروقراطي لغوش أيمونيم.
بهذه المنهجية تنامت تشكيلات جيش المستوطنين، مع التزام فصلها التامّ عن المنظمات الرسمية والحكومية، ظاهرياً، فانطلقت الجماعات غير الرسمية العاملة على شكل خلايا صغيرة بلا هرمية واضحة في عملية زحف استيطانٍ واستيلاء واسع تركز في محيط البؤر العشوائية والتلال شرق نابلس، وشرق رام الله، وسلفيت، وجنوب الخليل قبل أن يتمدد ويتسع.
فيما وفّر الحرس المدني الاستيطاني برامج تدريبة، واجتماعات تقييم دورية، وعزز من قدرة التشكيلات على الحركة بدعمها بنقاط مراقبة، ووحدات صغيرة من الحراسة لتنسيق الهجمات مع الجيش.
في حين توزعت في مختلف مناطق الضفة الغربية فرقٌ أمنية محلية وكتائب دفاعية إقليمية على شكل وحدات عسكرية تضم مستوطنين، يعملون على مهاجمة الطرق الالتفافية والقرى المحيطة بالمستوطنات، بزعم حمايتها.
ولدى هذه الفرق مراكز رسمية وآلية تسليح دورية، وعمليات مشتركة مع الجيش، ما يوفر للجماعات الصغيرة فرص الهجوم بحرية، فيما تعمل الكتائب والوحدات على توفير الغطاء الرسمي والدعم اللوجستي وتنظيم الهجمات.
البنية العسكرية لجيش المستوطنين
بُعَيد السابع من أكتوبر/تشرين الأول فعّلت وزارة الأمن الإسرائيلية جُدُر الحماية حول مستوطنات الضفة الغربية، من خلال تزويد المستوطنين بأكثر من 20 ألف قطعة سلاح، بالإضافة إلى سترات قتالية وبنادق تافور وإم 16 وإم 4 وذخائر متنوعة، ليُضاف ذلك إلى تسليحهم الأساسي نتيجة المعدل العالي لخدمة الذكور البالغين بينهم، الذي يصل إلى 60-70% من سكان المستوطنات.
كما اتفق على تمويلهم وزارة الأمن والزراعة والمجالس الإقليمية للمستوطنات، والمنظمات اليمينية، والحركات الدينية الكبرى، وصناديق الشتات اليهودي، بهدف تنويع جهدهم العملياتي، الذي شمل في الأعوام الأخيرة نصبهم حواجز داخلية بين مدن وقرى الضفة تفوق 1500 حاجز.
وترتفع أعدادهم عادة في مواسم الحصاد، إضافة إلى تنظيم عمليات اقتحام مشترك مع لواء كفير وكتائب حرس الحدود، وتنفيذ عمليات تأمين طرق التفافية بمصادرة المزيد من الأراضي وتجريفها، وإتمام عمليات تهجير قروي مباشر، كما في مناطق وادي القلط والمعرجات وعين سامية ومسافر يطا خلال الأعوام 2022-2024، وخلال المواجهات يُضَخّ بهم لتنفيذ عمليات انتقام عنيفة في القرى الفلسطينية من خلال الإحراق والسرقة والتدمير كما في المغير وحوارة وترمسعيا وغيرها.
هذا التنسيق بين جيش المستوطنين وجيش الاحتلال، يبدأ من تبادل المعلومات الاستخباراتية مروراً بتأمين أعمال العنف والانسحاب، وانتهاءً بدعم البؤر بنقاط مراقبة عسكرية، ما أهّل عديداً من قادة التشكيلات غير الرسمية ليصبحوا جزءاً من لجان المناطق العسكرية، التي تؤسّس مزيداً من الجماعات الاستيطانية، المسلحة المدربة المعززة قانونياً ومؤسساتياً، والمدمجة في البنية الأمنية، والمنفصلة عن البنية الرسمية في الوقت ذاته.
يُشير توثيق مؤسسة الدراسات الفلسطينية لعنف الجيش والمستوطنين في الضفة الغربية، إلى استشهاد 35 فلسطينياً نتيجة أكثر من 7154 هجوماً منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023.
بالإضافة إلى تهجير أكثر من 33 تجمعاً تقطن فيه قرابة 455 عائلة فلسطينية، على يد المستوطنين وحدهم، فيما يوثّق تقرير منظمة الأمم المتحدة (OCHA) خسائر كبيرة في القطاع الزراعي، بخاصة خلال موسم الزيتون، بلغت خلال 2024-2025، قرابة 10 ملايين دولار، نتيجة عدم جني المحصول من 96 ألف دونم من الزيتون.














