أي مستقبل للأحزاب التونسية في ظل تصاعد الشعبويات؟
تونس الثورة، تونس الديمقراطية الناشئة، تونس حرية الإعلام.. كلمات طالما تغنّى بها التونسيون وغير التونسيين من التواقين للحرية والداعمين لها طيلة عشر سنوات احتفاءا بتونس .
مستقبل الأحزاب التونسية في ظل تصاعد الشعبويات (Others)

عشر سنوات مرت خلالها الثورة التونسية بعدة محطات، بين انتخابات وتأسيس للجمهورية الثانية وحوار وطني وجائزة نوبل للسلام، ثم استقرار فتوافق حتى رحيل رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي وانتظام الانتخابات التشريعية والرئاسية لسنة 2019 .

عشرية جديدة، ووجوه غير مألوفة في عالم السياسة التونسي، جعلها تدخل في مرحلة مستجدة وحالة من عدم الاستقرار، خاصة بعد هبوب رياح الشعبوية وصعود نجمها وتشتت المشهد البرلماني، لتتالي الحكومات والأزمات، وليمضي أكثر من شهر على التحوير الوزاري الذي أجراه رئيس الحكومة هشام المشيشي دون دعوة الوزراء الجدد لأداء اليمين الدستورية من قبل رئيس الجمهورية قيس سعيّد .

أزمات عمّقت حالة الاستقطاب على الساحة السياسية التونسيّة وأثخنت في جراح الشعب التونسي على الصعيدين الاجتماعي والاقتصادي، أزمات جعلت نواقيس الخطر تدقّ.

فأي مستقبل للأحزاب وللتجربة الديمقراطية في تونس في ظلّ تصاعد الشعبوية؟

الباحث في الشؤون السياسية وتاريخ الاقتصاد أيمن البوغانمي اعتبر في تصريح لـTRT عربي أن أسباب الشعبوية ثلاثة، أوّلاً، ''معارضة الدكتاتورية دائماً تقوم على الشعبوية لأن المعارض للدكتاتورية لا يقترح برنامجاً سياسياً أو برنامجاً للحكم إنما هو يقترح برنامجاً للمعارضة فقط''، موضحا ''أن معارضة الدكتاتورية تحمل في طياتها الشعبوية وبعد سقوط الدكتاتورية تجد الشعبويات نفسها في مقدمة المشهد السياسي، إذن فالسياق الثوري بطبيعته حمال للشعبوية''.

والسبب الثاني، حسب البوغانمي، يتمثل في ''أن العالم أجمع يشهد صعوداً للتيار الشعبوي باعتبار أن وسائل الاتصال الحديثة تمكّن من الاتصال المباشر مع الجمهور، وبالتالي لم يعد القائد في حاجة إلى حزب أو وسيلة إعلام رسمية، إذ أصبح بالإمكان إدراك الجمهور دون المرور بأيّ حواجز أو تصفية''.

السبب الثالث حسب الباحث في الشؤون السياسية، فهو ''اجتماعي واقتصادي ويتجلّى ذلك في تنامي الإحباط بعد موجة التفاؤل التي رافقت الثورة واكتشاف الحقيقة وصعوبة الانتقال الديمقراطي وصعوبة الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي بحيث تستغلّ الشعبوية كثرة الإحباط للبروز''.

ونبّه البوغانمي، إلى أن الشعبوية تعدّ خطيرة على كلّ تجربة ديمقراطية لأنها تعِد بما لا تستطيع أن توفره الديمقراطية، وتعد أيضاً بالديمقراطية الحقيقية أو الشعبوية والتي تؤدّي إلى نقيض الديمقراطية، بمعنى أن الشعبوية اليوم تهدّد فعلا الديمقراطية التونسية لأنها تُبعد عن الاعتدال وتُقرّب من التطرف''، وفق تقديره.

وخلص البوغانمي إلى القول بأن: "الديمقراطية عموماً لا تستطيع أن تشتغل إلا بالأحزاب، وبدورها الأحزاب التونسية تتعرّض لصعوبات كبيرة وحقيقية، حيث يقوم النظام الانتخابي بإضعافها وإفقادها المبادرة لتصبح أحزاباً صغيرة والأحزاب الصغيرة تميل إلى الشعبويّة''.

من جانبه، أرجع رئيس المعهد العربي للديمقراطية والوزير السابق خالد شوكات في حديثه لـTRT عربي، السبب الأول لصعود الشعبوية في العالم إلى وجود ''أزمة اقتصادية واجتماعية''، معتبراً أن ''الكائنات الشعبوية لا تكبر إلا في مستنقعات الأزمات وبالتالي فإن تاريخ الشعبوية والفاشية مرتبط بالأزمات الاقتصادية والاجتماعية'' أي ''عندما تتراجع المرافق الخدماتية والقدرة الشرائية وتضيق الأفق''، وفق قوله.

والشعبوية في تقدير شوكات هي ''تقديم إجابات بسيطة عادة ما تكون قائمة على الحقد والكراهية وتقسيم المجتمع لأسئلة مركبة وعميقة''، كما أن ''هذه الحركات أو التيارات الشعبوية غالباً ما تبيع الأوهام لجماهير مؤهلة للفرار من صعوبة الواقع تجاه الحل الوهمي''.

واعتبر شوكات أنه لو كان أداء الحكومات المتعاقبة منذ الثورة، أفضل اقتصادياً واجتماعياً لما كان هناك مبرر لظهور التيارات الشعبوية، أي ''لو كانت الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية جيدة لما وجد الخطاب الشعبوي أي نوع من أنواع الرواج''.

ونبّه رئيس المعهد العربي للديمقراطية، من صعود التيارات الشعبوية وتهديدها للديمقراطية الناشئة في تونس، لافتاً إلى أن الظواهر الشعبوية في تونس مرتبطة وفيها بُعدان؛ بُعد يمثله رئيس الجمهورية قيس سعيد على شكل مزيج من الديني والطهوري، وبُعد شعبوي فاشي يقوم على تغذية الكراهية والإقصاء تمثّله بعض الأحزاب السياسية كالحزب الدستوري الحر.

وأبرز شوكات، أن ''الفاشية من أمراض شيخوخة الديمقراطيات وقد أصابت ديمقراطيتنا الفتية''، مفسّراً ''يعود ذلك بالأساس إلى انفتاح العالم الذي لا يعصم الديمقراطيات الناشئة من مثل هذه الأمراض مع فارق أن الديمقراطيات العريقة تحميها مؤسسات قوية قادرة على الوقوف في وجه الشعبويات على عكس الديمقراطيات الناشئة التي تهدّدها الشعبويات في عمق يؤدي إلى انتكاس المشروع الديمقراطي''.

وأرجع شوكات أسباب وصول أمراض الشيخوخة الديمقراطية إلى التجربة التونسية إلى تعثر الأداء الحكومي على المستويين الاقتصادي والاجتماعي باعتبار أن النخبة التي تسلمت الحكم بعد الثورة لم تحسن ترتيب الأولويات وبالتالي منحت المجال السياسي أولوية مطلقة على حساب المجال التنموي والاقتصادي الاجتماعي''.

وأضاف: ''كما أن المؤسسات التي يستند إليها النظام الديمقراطي كوسائل الإعلام والأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني بدورها لا تزال هشة في الفترة الانتقالية، حيث إننا بصدد البناء بوسائل بناء لم تكتمل بعد''.

وبشأن مستقبل الأحزاب السياسية في ظلّ تصاعد الشعبوية، اعتبر الوزير السابق أن المسألة لها جانبان، الجانب الأول متعلّق بأزمة الأحزاب في العالم بشكل عام، بما يعني أن مخترع الحزب يعاني بشكل عام، حتى أن منظري الديمقراطية في الديمقراطيات العريقة يفكرون في ما بعد الحزب، إذن فالأحزاب السياسية مطالبة بأن تطوّر نفسها لشيء آخر مختلف يعتمد على التشاركية وثورة الاتصالات وأقرب الى التيارات بعيداً عن الشكل الكلاسيكي الستاليني للأحزاب''.

كما اعتبرأن المنظومة الحزبية تحتاج إلى مراجعة نقدية وإلى إعادة بناء وتأهيل وإمكانيات وقدرات وقوانين جديدة، ومسؤولية ذلك تحمله أيضاً الدولة التي تخلّت عن الأحزاب السياسية، وفق تقديره.

ولاحظ أن الأحزاب السياسية ليس لها أي تمويل عمومي رغم أنها مؤسسات عامة ومن المفترض أن تأخذ بقدر تمثيليتها من المال العام لكي تؤدي وظيفتها تجاه الجماهير، مشيراً إلى أن العمل الإنقاذي للأحزاب السياسية غير متوفّر في الوقت الراهن.

وختم خالد شوكات حديثه لنا ''بتحذير الأحزاب في تونس من خطورة المأزق''، مشدداً على أنه ''عليها التحرك بسرعة على الأقل في مستوى التشخيص والدراسة، ثمّ العمل -بتضامن في ما بينها- على إنقاذ المنظومة الحزبية''، مُقراً بأن ''انهيار هذه المنظومة هو انهيار أحد أهم القوائم التي يرتكز عليها النظام الديمقراطي وإذا انهار هذا القائم لن تتمكن الديمقراطية من الاستمرار''. إذن على حد قول خالد شوكات، فإنه على الأحزاب الممثلة في البرلمان وخاصة أحزاب الحزام السياسي للحكومة (حركة النهضة وقلب تونس) أن ''تتحرّك من أجل الإنقاذ ومن أجل وضع مخطط واضح وجريء وحاسم لإنقاذ المنظومة الحزبية ولإنقاذ المشروع الديمقراطي ومؤسسات الحكم''.

صرّح الرئيس التونسي قيس سعيّد في أكثر من مناسبة عن عدم اقتناعه بالنظام السياسي وبالدستور الحالي للبلاد، وبالبرلمان و الأحزاب السياسية (Others)

الأستاذ بالجامعة التونسية والمختص في علم الاجتماع محمد الجويلي، في تصريح لـTRT عربي قال إن الشعبوية هي إحدى طرق تسيير الحياة السياسية، وتعتمد على إعطاء مساحة أكبر للشعب كي يعبّر عن آرائه.

واعتبر الجويلي أن السياسة بما هي إدارة للشأن العام والدولة، تمثّل شيئاً آخر يحيلنا إلى التناقض بين البعد الشعبوي والبعد السياسي البراغماتي''، أعاد الجويلي أيضاً رواج الخطاب الشعبوي إلى فشل التجربة البراغماتية الحزبية والسياسية والفراغ الذي تركته، أي أنها لم تحقق انتظارات عموم الناس، وصارت تُجرّم النشاط والانتماء الحزبي وتشيطن الممارسة السياسية بمعناها البراغماتي والمؤسساتي.

المختصّ في علم الاجتماع بيّن كذلك أن أي فراغ تتركه الأحزاب يُملأ إما بخطاب يتجه نحو التشدد أو بالخطاب الشعبوي الذي يدين الممارسة السياسية والأحزاب والبرلمان. إذن فالشعبوية في تقدير الجويلي هي إجابة على تساؤلات الناس وعلى إمكانية تنفيذ شيء ما من قبل الشعب.

وفي هذا الإطار نبه الأستاذ بالجامعة التونسية من خطر الشعبوية وتأثيرها السلبي على الديمقراطية التي تقوم بالأساس على المؤسسات وعلى الانتخاب والتمثيلية، فالشعبوية تنسف كل هذا وتحدّ من قدرة الهياكل التنظيمية المنتخبة ديمقراطياً كالبرلمان والهيئات الدستورية وتعمل على إضعاف مصداقيتها وتضرب ثقة الناس فيها، والدليل على ذلك تراجع نسب الثقة في المؤسسات في كل عمليات استطلاع الآراء بخلاف المؤسسة العسكرية، وهو ما يوضّح أن الشعبوية في لحظة من اللحظات من الممكن أن تكون خطراً على الديمقراطية.

وشدّد الجويلي على أنه مهما كانت الأزمات التي من الممكن أن تمرّ بها الديمقراطية إلا أن الشعبوية أخطر منها بكثير لأن لا مرجعيات ولا مقاييس لها، كما أنها مسألة هلامية توهم الشعب بأنه يمسك بزمام أموره، وفي الحقيقة الطريقة الوحيدة التي تمكّن الشعب من الإمساك بزمام أموره هي الديمقراطية.

وأكد الجويلي أن ما يجب القيام به الآن هو تحسين أداء الهيئات التمثيلية وأن يكون منتخبوها أكثر التزاماً وأكثر شفافية وأكثر تعلّقا بالقيم الديمقراطية كي يتمكنوا من إرجاع ثقة الناس في هذه الهيئات المنتخبة وإرجاع الهيبة والمصداقية للحياة السياسية لأنه من غير المعقول الاستمرار بدون أحزاب سياسية.

في السياق ذاته حذّر المختص في علم الاجتماع من الذهاب نحو الفوضى تحت عنوان فكرة شعبوية، لأنه لا يمكن توقّع من أين تبدأ وأين تنتهي الشعبوية. ولتجنب خطر الشعبوية، فإن الحل في نظر محمد الجويلي، يكمن في العمل على إرجاع قدرة الأحزاب على تسيير الشأن وتحسين أداء الديمقراطية التمثيلية كما هو الحال في كل الديمقراطيات العريقة.

TRT عربي