An electric car is plugged in at a charging point for electric vehicles in Rome (Guglielmo Mangiapane/Reuters)
تابعنا

"مفاجأة"، هكذا اعتبرتها وسائل إعلامية ألمانية، أن تتحول علامة "مرسيدس" الشهيرة بالكامل إلى تصنيع السيارات الكهربائية، هي لا تزال تحقق النسبة العليا من إيراداتها ببيع سياراتها التي تعمل بالبنزين أو الديزل.

فيما لا عجب من قرار المصنع الألماني ذاك، باعتباره تحركاً كونياً نحو السيارات "صديقة البيئة"، كما يأتي تزامناً وإعلان أوروبا عبر "اتفاقها الأخضر" اتخاذها إجراءات جديدة في سبيل بلوغ مرحلة "صفر انبعاث كاربوني" في حدود سنة 2050. قرار يرى فيه مراقبون صباً للزيت على النار المتقدة أساسا ًبفعل الأوضاع الاجتماعية التي خلفتها أزمة كورونا، وتقريباً للنار من برميل بارود سبق أن جرَّبت أوروبا انفجاره سنة 2018 مع حركة السترات الصفراء.

يعيد الأمر التساؤل حول مدى الكلفة الاجتماعية لهذه القرارات المروَّج لها على أنها تسعى لحل مشكلة المناخ، وبذات الكيف التساؤل عن مدى الصدف في تسمية السيارات الكهرابائية صديقة للبيئة. كل هذا في سياق جيو استراتيجي في طريقه للتشكل، يُعوَّض فيه السباق الطاقي حول موارد البترول، بآخر حول موارد المعادن المستعملة في صناعات بطاريات هذه السيارات الكهربائية.

"مرسيدس" تستعد للتحول بالكامل إلى السيارات الكهربائية

نقلًا عن وكالة الأنباء الألمانية، أعلنت شركة “دايملر” الألمانية التي تنتج سيارات “مرسيدس” عن أهدافها "الأكثر طموحاً" في تحول خطوط إنتاجها بالكامل إلى السيارات الكهربائية بالكامل، منخرطة هي الأخرى في سوق صناعة المركبات هذه، التي تتنافس فيها شركات السيارات الكبرى في العالم لإثبات تفوقها.

كان ذلك خلال لقاء مع المستثمرين يوم الخميس 29 يوليو/تموز، حين كشفت “دايملر” عن خططها لتوديع عصر محركات الاحتراق الداخلي التي تعمل بالوقود الكربوني في سيارات “مرسيدس بنز”، في إعلان اعتُبر مفاجأة في ضوء حقيقة أن “مرسيدس” ما زالت تحقّق الجزء الأكبر من إيراداتها من مبيعات السيارات التي تعمل بالبنزين والديزل.

ويستهدف المصنِّع الألماني تحقيق 50% من مبيعات "مرسيدس" من السيارات الكهربائية بحلول 2025، وهي ضعف النسبة المستهدفة سابقاً. وتعتزم إقامة ثمانية مصانع ضخمة لإنتاج بطاريات السيارات الكهربائية بطاقة إنتاجية إجمالية تزيد على 200 غيغاوات/ساعة بالتعاون مع شركاء في مختلف أنحاء العالم، في أهداف تُعَدّ أكبر من تلك السابقة.

في ما يأتي هذا الإعلان قبل أيام قليلة من إعلان رئيسة المفوضية الأوروبية عن "الاتفاق الأخضر" الخاص بالاتحاد الأوروبي. اتفاق أهم ما يتضمنه من إجراءات هو توسيع سوق انبعاثات الكربون لتشمل قطاعات جديدة، كالنقل وتسخين البنايات. ويهدف الاتفاق إلى تخفيض انبعاثات الاتحاد من غاز ثنائي أكسيد الكربون إلى 55% بحلول سنة 2030، وإلى 100% سنة 2050.

سيارات ليست بتلك النظافة

ويعلّل الاتحاد الأوروبي خطته تلك بأن النقل البري يحظى بحصة الأسد من انبعاثات الكاربون الناتجة عن قطاع النقل، من هذا المنطلق رفعت المفوضية تحدي التحول الكامل نحو السيارات الكهربائية بحلول 2050. وهكذا نجد ماكرون، في تماهٍ مع هذا التوجه، يخصص 8 مليارات يورو من حزمة الإعانات الأوروبية للاقلاع الاقتصادي، لصالح صناعة "السيارات النظيفة".

يقول واقع الأمر إن هذه "السيارات النظيفة" ليست نظيفة تماماً، وإن "الليثيوم لا يزال يطرح أسئلة إشكالية حول جدواه في تحقيق الانتقال الإيكولوجي"، حسبما يقول البنك الدولي في تقرير سابق له. كما تؤكد دراسات علمية مقارنة أن انبعاثات الكربون الناتجة عن خطوط إنتاج السيارات الكهربائية تفوق بـ60% نظيراتها التي تنتجها السيارات التي تعمل بالمحروقات. بالتالي فإن "السيارات صديقة البيئة" تلوث البيئة مرَّتين أكثر من مثيلاتها الحرارية، كما يقر باحثون. سواء أكان ذلك تلويثاً للهواء كما ذكرنا آنفاً، أو كان تلويثاً للأرض والفرشات المائية.

تتحدَّث تقارير عن أن حجم الكارثة التي تسببها عمليات تعدين الليثيوم، العنصر الأساسي في بطاريات السيارات الكهربائية، بمنطقة أتاكاما في الشيلي، إذ تستهلك المناجم هناك ما يقارب 200 مليون لتر ماء يومياً، وتدفع عمليات الضخّ التحت-أرضي الفرشات المائية إلى الغور عميقاً في الأرض، إضافة إلى تسرُّب الموادّ الملوثة والمعادن الثقيلة نحو تلك الفرشات، مما يجعل المنطقة هي الأكثر عطشاً على الكوكب، ناهيك بهشاشة التربة وأيلها إلى الانهيار، والقضاء على الثروة النباتية والحيوانية هناك.

سيارات عدوَّة الإنسان!

"اتفاق انتحاري"، هذا ما وصف به النائب الأوروبي باسكال كافين ما أعلنت عنه أرسولا فون دير لاين، محذراً الساسة في بروكسل بأن يُحجِموا عن توسيع نطاق سوق الكربون، وقال: "لقد حاولنا فعل ذلك في فرنسا، وما حصلنا عليه كان انفجار السترات الصفراء!". مع العلم أنه وقت انفجار السترات الصفراء لم تكن الشعوب بهذا الإنهاك الذي خلَّفته أزمة كورونا، فيما يعني أي توسيع لهذه السوق جبْيَ ضرائب أثقل تنزل في معظمها على كاهل المواطن الأوروبي البسيط.

لكن توحُّش هذا الانتقال البيئي يقع على الناحية الأخرى من البحر، كما تفضح تحقيقات الصحافة البيئية، حيث يقع "ممر الليثيوم" بأمريكا اللاتينية على أراضٍ في معضمها مؤهولة بسكان تلك القارة الأصليين. ومع ضغط السوق الذي تستثيره قرارات كتلك التي اتخذها الاتحاد الأوروبي، تضرب الهُوية والذاكرة والسلامة الشخصية لتلك الشعوب الأصلية عرض الحائط، فداءً للمصالح الاقتصادية ولاستمرار نمط العيش الأوروبي المرفَّه.

نفس الأمر بإفريقيا، حيث يُعدَّن الكوبالت من أجل كاثودات بطاريات تلك السيارات، في مناجم لا تزال العمالة فيها تعتمد الطرق البدائية للحفر والتنقيب. ففي الكونغو حيث تأتي نصف واردات العالم من هذا المعدن، يشتغل أكثر من 200 عامل على استخراجه في ظروف تفتقر إلى أدنى شروط السلامة، من بينهم أطفال حُرموا الدراسة، بأجور لا تتعدى دولارين في اليوم، حسب ما تورده تقارير منظمات غير حكومية.

إضافة إلى كل هذا، يضعنا تحوُّل التركيز الدولي نحو هذه المعادن أمام واقع سباق جيوسياسي مهمّ، هو الذي غدا أكثر تهديداً لمصير تلك الشعوب، كما شهدناه يهدد سابقاً شعوباً أخرى وقت الاقتتال العالمي المحموم حول البترول.

وقد بدأ أول تجليات ذلك الصراع، حسبما يخبرنا الرئيس البوليفي السابق إيفو موراليس، بأن "الانقلاب الذي حصل ضده سنة 2019 كان من أجل التحكم في مناجم الليثيوم التي تزخر بها البلاد"، مشدداً على أن "الدول الصناعية لا ترغب في أن تنافسها الدول النامية على تلك الصناعات (...)، لهذا أنا مقتنع تماماً بأنه انقلاب، وأنه انقلاب من أجل الليثيوم" يختم موراليس.

TRT عربي
الأكثر تداولاً