تابعنا
أوصلت المسلسلات والروايات التاريخية صوراً كثيرة عن النساء في الدولة العثمانية. منها ما يكشف فعليّاً عن التاريخ ومنها ما كان محفوفاً بالغموض والخيال، واعتمد على رواياتٍ تاريخية خاطئة شوّهت الصورة العامّة للدولة وحكّامها وأفرادها بما فيهم النساء

ربّما تكون تلك الصورة السلبية قد نشأت عن طريق الروايات التاريخية التي اختصت بسرد أحداث "الحرَملك" بما فيه من زوجة أو زوجات للسلطان وجواريه وأمّه وأخواته وبناته، وما تخلّلها من قصص عن الغيرة والسعي للوصول للسُلطة عن طريق المكائد والتخطيط للانقلابات وزرع الفتن بين الأخوة الأمراء أو بين الأبناء ووالدهم السلطان.

لكن كلّ هذا لا يُنكِر أبداً أنّ النساء لعبنَ أدواراً فاعلة وقوية وأثبتنَ حضورهنّ في المجالات السياسية والاجتماعية والثقافية في الدولة. وربّما لهذا السبب أٌطلق على الفترة الممتدة من أواخر عهد سليمان القانونيّ إلى فترة السلطان إبراهيم الأول اسمَ "سلطَنة النساء"؛ حيث حضرت فيها العديد من السلطانات بقوّة في المجاليْن الخاص والعام.

سلطانات الدولة: أدوار سياسية وثقافية مهمة

لعلّ أهمّ الأسماء التي لمعت من النساء في الدولة العثمانية كانت السلطانة هرّم زوجة سليمان القانوني ووالدة السلطان سليم الثاني، والسلطانة طورهان زوجة إبراهيم الأول ووالدة السلطان محمّد الرابع، وهناك مهريماه وكوسم ونوربانو، والسلطانة صفية زوجة مراد الثالث. فيما كانت السُلطانة "عائشة حفصة"، زوجة سليم الأول ووالدة سليمان القانوني، أوّل السُّلطانات التي حملت لقب "الوالدة السلطانة" وقد عُرف عنها قدرتها الإدارية العالية وإمكانياتها في تنظيم أمور "الحرَملك" والكثير من المشاريع الخيرية التي أمرت بها في البلاد.

يُذكر على سبيل المثال في كتاب "المرأة العثمانية بين الحقائق والأكاذيب" أنّ السلطانة "هرّم" أو كما تُعرف أيضًا باسم روكسلانة قد برز دورها أيضاً في الشأن السياسي من خلال علاقاتها الجيّدة مع الكثير من زعماء وسياسيي الخارج ممّا دعم زوجها السلطان سليمان القانوني على المستوى الدولي كثيراً. أمّا من الناحية الاجتماعية والخيرية، فتذكر كتب التاريخ أنّ "هرّم" أمرت ببناء الكثير من الأعمال والمؤسسات الخيرية، ليس فقط في إسطنبول وإنما في مكة والمدينة والقدس، لخدمة المحتاجين وطلاب العلم.

ولمع أيضاً اسم "بَزْم عالم سلطان" زوجة السلطان محمود الثاني ووالدة عبد المجيد الأول من خلال الكثير من المؤسسات الخيرية التي أمرت وأشرفت على إنشائها مثل المشافي والجوامع والمكتبات والمدارس بما فيها "مدرسة إسطنبول الثانوية للبنات" عام 1850، إضافةً إلى جامع "دولمة بهجة".

المرأة العثمانية في الحيّز العام

يذكر سليمان شفايجر، وهو قسّ كاثوليكي سافر للدولة العثمانية وترجم القرآن لأول مرّة إلى لغةٍ أوروبية حديثة، في جملة ذكرياته عن الأيام التي قضاها بين العثمانيين أنّ "الأتراك يحكمون العالم، في حين تحكمهم زوجاتهم". أمّا الأديبة والشاعرة البريطانية ماري وورتلي مونتاغيو التي عاشت في إسطنبول بوصفها زوجة السفير البريطاني فيها، فقد صرّحت مرةً في رسائلها الأدبيّة بأنه لا يوجد نساء في أيّ مكانٍ في العالم مثل نساء الإمبراطورية العثمانية. ما يعني أنّه لا يمكننا الحديث عن السياسة والثقافة والمجتمع في الدولة العثمانية دون حديثنا عن نسائه.

في حديثها معTRT عربي، تذكر الباحثة في التاريخ التركي كوثر ألباهار أنّ هناك الكثير من الكتابات والرسائل التي كتبها الأوروبيّون عن مكانة المرأة في الدولة العثمانية ودورها في المجتمع. ولفترةٍ طويلة، لطالما كان الأوروبيون ينظرون للعثمانيين بمحطّ إعجابٍ وانبهار، لا سيّما في الفترة ما بعد منتصف القرن التاسع عشر، حيث شهدت الدولة العثمانية تحديثات إدارية وسياسية كبيرة، عُرفت باسم "التنظيمات"، وحملت معها تغييرات وتطوّرات عديدة فيما يخصّ أوضاع النساء وحقوقهنّ؛ فعلى سبيل المثال تمّ آنذاك إلغاء قوانين رقّ النساء واتخاذ الجواري والإماء.

وأكثر من ذلك، حدثت طفرة كبيرة في الاهتمام بتعليم الفتيات والشابات. فقد افتُتحت أول مدرسة ثانوية للبنات في إسطنبول عام 1858 في عهد السلطان عبد المجيد الأول. وفي عام 1869 أصدرت الدولة قانون التعليم الإلزامي للفتيات بين سنّ ست إلى عشر سنوات، إلا أنّ تطبيقه ظلّ محدودًا.

أمّا ما كان مثيراً للإعجاب في ذلك الوقت، هو أنّ تلك المدارس كانت تخصّص دروساً عديدة في مختلف المواضيع، كالخطابة والقرآن والتجويد وعلوم الدين والأدب واللغات مثل العثمانية والعربية والفارسية، وفنون الخط والزخرفة والمهارات اليدوية وإدارة المنزل والحساب والصحة والجغرافيا والتاريخ وغير ذلك.

فيما تُعتبر فترة السلطان عبد الحميد الثاني فترةً مميزة فيما يخصّ وضع النساء في الدولة، إذ اهتمّ كثيراً بمدارس الفتيات، وعمل على زيادة عددها، وافتتح 3 مدارس للأعمال الفنية ومدرسةً للتمريض لتدريبهنّ عليه تحسّباً للحروب. وبذلك، يمكننا القول إنّه بعدما حصلت المرأة في العهد العثماني على فرصها الكافية والمتوفّرة في التعليم والتدريب والثقافة، أصبحت أكثر قدرةً على دعم قضاياها بنفسها والمطالبة بحقوقها وتحسين أوضاعها في شتّى المجالات الاجتماعية والسياسية والثقافية وما إلى ذلك.

يذكر مجاهد تورجوت في ورقته البحثية عن المرأة في الدولة العثمانية أنّ في تلك الفترة أيضًا، بدأ صوت المرأة يخرج للملأ من خلال عالم الصحافة والدوريات؛ فصدرت أول دورية أسبوعية خاصة بالمرأة حملت عنوان "السيدات الفضليات" كملحق ضمن جريدة "ترقي" واحدة من أوائل الجرائد في الدولة العثمانية. تبعها لاحقًا مجلّات ودوريات أخرى مثل مجلتيْ امرأة ومحاسن عام 1908 وعالم النساء عام 1913. وخرجت في هذه الفترة نساء أديبات عُرفت أسماؤهنّ على نطاق واسع، أشهرهنّ "فاطمة علياء هانم"، والتي طُبعت صورتها لاحقاً على ورقة الخمسين ليرة التركية تقديراً لإنجازاتها الأدبية والثقافية ونشاطاتها في مجال حقوق المرأة.

أما على النطاق الاقتصادي، فقد حضرت المرأة بشكلٍ بارز أيضاً في شتى مراحل الدولة العثمانية. حيث دعمت الدولة المرأة اقتصاديّاً مستمدةً قوانينها من الدين الإسلامي الذي أعطى النساء حقوقهنّ في إدارة ثرواتهن وأمواله، فكان لها الحقّ في شراء الممتلكات وإدارتها وبيعها دون تدخّلٍ من أزواجهنّ أو آبائهنّ أو أقاربهنّ، فيما يحقّ لهنّ اللجوء للمحكمة والقضاء في حال واجهن أيّ انتهاكٍ أو ظلمٍ ضدّهنّ من أقاربهنّ.

جديرٌ بالذكر أنّ أكثر من 35% من ممتلكات إسطنبول قد أسستها نساء. عوضاً عن أنّ القضاء قد مكّنهنّ من خلال إعطائهنّ حقّ خلع أزواجهنّ بسبب سوء المعاملة أو الظلم.

وبهذا، يمكننا القول إنّ كثيراً مما تُصوّره الروايات والمسلسلات عن المرأة في العصر العثماني وحصر دورها في القصر كزوجة أو عشيقة أو أمّ يعدّ ناقصاً، فقد حضرت المرأة، سواء من السلطانات والأميرات أو من عامّة الشعب، في كثيرٍ من المجالات المختلفة في المجتمع وساهمنَ فيه أيّما مساهمة.

نساء في الدولة العثمانية (Getty Images)
نساء في الدولة العثمانية (Getty Images)
نساء في الدولة العثمانية (Getty Images)
TRT عربي
الأكثر تداولاً