تابعنا
يعيش القرويون في تونس، الذين ظلمتهم الجغرافيا، والسياسات الخاطئة تحت حصار الطبيعة، أوضاعاً مزرية ومأساوية، وحياةً مليئة بالمصاعب.

عكس ما تعرضه شاشات التلفزيون، وما تتضمنه الدراما التونسية، التي اعتادت توظيف أهالي الأرياف في الأدوار المضحكة والساذجة، تئنّ العديد من المناطق الريفية في أعماق تونس من وطأة التهميش والإقصاء، ومن غياب الضروريات ومقومات العيش الكريم، ويعاني أهلها، وبشكلٍ خاص سكان سفوح الجبال، الفقرَ والبطالة.

"فثلاثة أرباع الفقراء في تونس يقطنون بالأرياف، وجلّهم لا يستطيعون، بسبب العوز الذي يعانون منه إبلاغ أصواتهم للسلطات للمطالبة بإيجاد حلول لمشاكلهم"، وفق ما خلصت إليه دراسة أعدّها أستاذ اقتصاد التنمية بالمعهد العالي للتصرف بالجامعة التونسية عبد الرحمن اللاحقة، بعد ثورة 14 جانفي 2011.

ويعيش القرويون في تونس، الذين ظلمتهم الجغرافيا، والسياسات الخاطئة تحت حصار الطبيعة، أوضاعاً مزرية ومأساوية، وحالة من الانقباض، يعجزون خلالها عن التواصل مع العالم الخارجي وتخذلهم الإمكانيات للتزود بالحاجيات الأساسية، في ظلّ غياب أبسط شروط الحياة.

ويؤكّد إلياس بن يونس أحد أعضاء تنسيقية المعطلين عن العمل في تصريحه لـTRT عربي، أنّ سكان القرى يُنظر إليهم على أنّهم مجرد ورقةٍ انتخابيةٍ، بالنسبة للسياسيين، الذين لم تطأ أقدامم ربوعهم المنسية، التي ظلت تعاني التهميش، إلا خلال الحملات الانتخابية، لتستغل حاجة العائلات الفقيرة للمساعدات في ظلّ الفقر الذي ينهك مقدرتهم على الحياة.

عزلة دائمة

قرى الدواخل التونسي، أو أعماق البلاد، هي بمثابة مساكن متناثرة، وتجمّعاتٍ سكانيةٍ صغيرةٍ متباعدةٍ، أو تحت الهضاب، لا تربط بينها سوى مسالك غابيةٍ وعرةٍ، وأخرى بدائية تُغلق بمجرد تهاطل الأمطار، خلال فصل الشتاء، الذي تحوّل إلى لعنةٍ للأهالي، وينجم عنها تهدّم الأكواخ والمنازل التي لم تراع فيها مقومات البناء الضرورية.

أما في حالات الاستقرار المناخي، فتعاني هذه القرى من العطش ومن انعدام المرافق الصحية والإدارية، والغياب شبه التام لمظاهر الدولة، فيؤمّن سكّانها عيشهم عن طريق الرعي في الغابات أو يزاولون مهناً فلاحيةً صغيرة.

مظاهر يعبر عنها الإعلامي محمد علي الذي ينحدر من أرياف محافظة القصرين، بتقصير الدولة، وغيابها في حالاتٍ أخرى، حتّى أنّه يرى أنّ مظاهر الحياة نفسها تنعدم أحياناً، غير أنّه يعتقد أنّ هناك صبراً جميلاً يملأ قلوب المزارعين.

يقول محمد علي في تصريحه لـTRT عربي ،"حتى المدرسة التي أنشأتها السلطات في ريفنا الفقير أصبحت شبه مهجورة الآن، والمسالك الفلاحية مملوءة بالحفر، فيما تعقّد المنحنيات الكثيرة السير في طرقاته المتردية التي كثيراً ما تنهي رحلات سيارات النقل الريفي، قبل موعد وصولها".

ويتعمّق الشعور بالعزلة لدى سكان الريف بعدم توفر وسائل الاتصال والإنترنت وأجهزة الاتصالات، وعدم الوعي الكامل بكيفية العمل على الأجهزة الحديثة التي تساعد على التقارب والاتصال بين المدينة والريف.

وتعتبر الدواب، والعربات التقليدية، وسائل النقل المتاحة في هذه المناطق، التي لا تزال بعيدةً عن الحضارة التي غمرت المدن، خاصّةً أنّ طرقاتها عبارةً عن مسالك فلاحية لا يسهل التنقل فيها، باستثناء العدد القليل الذي يربط محافظةً بأخرى.

صراع المركز والهامش

وتشير الإحصاءات إلى أنّ مليون نازح أغلبهم من الشباب، هجروا مناطقهم إلى العاصمة ومدن الساحل التونسي خلال السبع سنوات الأخيرة، فيما تعتبر العاصمة أكبر حاضرة مستقبلة للشباب الباحث عن موارد الرزق، لتوفر خدماتٍ أفضل في النقل والتعليم والصحة مقارنة بحياة الريف الصعبة.

وتؤكد إحصاءات المعهد الوطني للإحصاء أنّ نسب البطالة حسب المحافظات في عام 2017، ترتفع بشكل خاص في المناطق الداخلية، وقد اِحتلت محافظة تطاوين المرتبة الأولى من حيث ارتفاع البطالة بـ32.4%، تليها قفصة بـ27.3%، ثم قابس بـ25.8%.

تأكيداً لذلك، يقرّ الباحث في علم الاجتماع ممدوح عز الدين في حديثه لـTRT عربي، أنّ العلاقة التي تحكم الريف والمدينة منذ عهد الاستعمار الفرنسي لتونس، هي علاقة المركز بالهامش، وأنّ الريف وسكانه دائماً في خدمة المدينة، التي تحتوي على كل مظاهر التحضّر، من مواطن شغلٍ ضرورية، وبنيةٍ تحتيةٍ ملائمة.

وأضاف عز الدين أنّ الوضع في الريف عادةً ما يكون هشاً، وتكون نسب البطالة فيه مرتفعةً، بسبب سياسات الدولة غير العادلة في توزيع السلطة والثروات، وهمّشت الدواخل، مشيراً إلى أنّ أعداداً كبيرةً من المزارعين فقدوا أراضيهم بسبب هذه السياسات، ونزحوا إلى مدينة، فكوّنوا أحياءً حزاميةً فقيرة، يُنظر إليها باحتقار.

وعلى الرغم من التقدم الحاصل في تونس على المستوى الصحي مقارنة بدول المنطقة، إلا أن الواقع الصحي في البلاد يتسم بفجوات حادة بين الفئات والجهات، إذ غالباً ما تتوفى امرأة تحت المخاض، لأنّها لم تستطع الوصول إلى مستشفيات المدينة في الوقت المطلوب، ويموت أطفال ارتفعت حرارتهم ليلاً ولا توجد وسيلة نقلٍ تقلّهم إلى مستشفى قريب.

هذا وتُظهر دراسة لـ "البنك الأفريقي للتنمية" أن معدل أمل الحياة مثلاً في سنة 2009 يصل إلى 74.5 سنة على المستوى الوطني، لكنه لا يتجاوز 70 سنة في مدن داخلية ومهمشة مثل القصرين وقفصة وسيدي بوزيد (وسط غرب تونس) وتطاوين (جنوب تونس) وجندوبة (شمال غرب تونس) والقيروان (وسط)، في حين يتجاوز 77 سنة في العاصمة تونس ومحافظات صفاقس وسوسة والمنستير، وهي مدن متاخمة للسواحل حيث تتوفر إلى حد ما البنية التحتية الصحية وتتمركز كبرى المستشفيات الجامعية.

كما تؤكد إحصائيات غير رسمية إلى أنّ مجموع معدّل وفيات الأطفال عند الولادة سنة 2009 بلغ 17.8% على مستوى وطني، غير أنّه يصل إلى حدود 21% في ولايات الجنوب، و23.6% في الوسط الشرقي للبلاد، وأنّ نسبة النساء اللواتي يلدن أطفالهن دون أية مساعدة طبية (أي في منازلهن عبر وسائل تقليدية) تناهز 40% في ولايات زغوان والقصرين.

أزمة التعليم

أغلب التلاميذ في هذه الربوع الفقيرة اعتادوا الاستيقاظ، قبل الساعة السادسة صباحاً، علّهم يصلون إلى مدارسهم في الموعد مع الساعة الثامنة، في رحلةٍ مكسوة بالعذاب اليومي لما قد تخفيه الطريق من مفاجآت تتفاقم بحلول فصل الشتاء، وجريان الأودية التي غالباً ما تجرف بعضهم، مثلما تنقل المؤسسات الإعلامية في تونس، لأنّهم لا يتمتّعون برعاية الدولة، أو بنقلٍ مدرسي يضمن وصولهم إلى المنزل.

وكانت آخر تلميذة جرفها وادٍ، مهى القضقاضي، التي لقت حتفها وهي تقاوم السيول الجارفة دون منقذ، لدى عودتها من المدرسة، في نوفمبر الماضي بمنطقة فرنانة من محافظة جندوبة (شمال غربي تونس)، التي تصنّف كأفقر المناطق التونسية.

في هذا الشأن، يرى الناشط في المجتمع المدني، ومدير إحدى المدارس الريفية فوزي اليوسفي في تصريحه لـTRT عربي، أنّ تلميذ المدارس الابتدائية في الأرياف تتعرض حقوقه إلى انتهاكات كبيرةٍ تفوق حجم التشريعات التي تتضمنّها القوانين التونسية.

وأضاف أنّ "التلميذ في القرى يخرج من منزل والديه منذ السادسة صباحاً لينتظر سيارة نقلٍ ريفي توصله إلى هدفه، وتركبها أيضاً فتيات في بداية فترة المراهقة وما قد ينجرّ عن ذلك من مشاكل، مشدّداً على أنّ صعوبة النقل التي يواجهونها يومياً في طريق الوصول إلى مقاعد الدراسة، من أبرز الأسباب التي تقف وراء الانقطاع المدرسي والذي يبلغ حسب الأرقام الرسمية الـ100 ألف تلميذ سنوياً وتكون نسبته أرفع في صفوف الإناث مقارنة بالذكور.

ويبلغ معدل المسافات التي يقطعها تلاميذ الأرياف من المسالك الوعرة مشياً على الأقدام أكثر من 5 كيلومترات، وتكون تلك الطرق المؤدية وعرةً، وتتخللها أودية وجبال، وكثرة الغابات، ما يتسبب غالباً في تذبذب حضورهم، وهو ما يؤثر بشكلٍ، أو بآخر، على نتائجهم العلمية في آخر السنة.

يعيش سكان الأرياف التونسية على رعي الغنم، لذلك فإنّ أوضاعهم مزرية ومأساوية (TRT Arabi)
تؤكد إحصائيات غير رسمية إلى أنّ مجموع معدّل وفيات الأطفال عندالولادة سنة 2009 بلغ 17.8% على مستوى وطني (TRT Arabi)
ثلاثة أرباع الفقراء في تونس يقطنون بالأرياف، وجلّهم لا يستطيعون، بسبب العوز الذي يعانون منه  (TRT Arabi)
أغلب التلاميذ في هذه الربوع الفقيرة اعتادوا الاستيقاظ، قبل الساعة السادسة صباحاً، علّهم يصلون إلى مدارسهم في الموعد مع الساعة الثامنة (TRT Arabi)
TRT عربي
الأكثر تداولاً