واستنكرت الرسالة في مستهلها قائلة: "كم مقدار ثمن (الذي يجب على الشعب الفلسطيني أن يدفعه)؟ كم من القتلى والمشاهد الفظيعة والأطفال الذين صاروا أشلاء والجثث المتفحمة والعائلات الثكلى، حتى تتمكن فرنسا أخيراً من استخدام الأدوات التي بحوزتها لوقف المذبحة؟".
هذا قبل أن يطالب الموقعون، ومن بينهم نواب برلمانيون وكتاب وفنانون، الرئيس ماكرون بـ"الاعتراف الذي طال انتظاره" بالدولة الفلسطينية، والذي "لا يأتي نتيجةً (للحرب)، بل هو شرط أساسي لأي عملية حوار وتفاوض، وضمانة للشعب الفلسطيني وحقه في العدالة والكرامة".
وتأتي هذه البادرة جزءاً من الضغط المتصاعد على ماكرون من أجل اتخاذ موقف إيجابي بشأن إيقاف الحرب في غزة، ومنع الشركات الفرنسية من توريد الأسلحة لإسرائيل، واعتراف البلاد بدولة فلسطين أسوة بجارتها الجنوبية إسبانيا.
وأصبح هذا الضغط، المستمر لما يقارب الأسبوع، يأخذ شكل حراك شعبي عام، جاء بشكل تلقائي ردَّ فعل على بشاعة مجزرة رفح يوم الأحد. كما يتخذ أوجهاً مختلفة، سواء بالتظاهر في الشارع، أم عبر حملات المقاطعة، أو تحركات النواب البرلمانيين تحت قبة الجمعية العامة الفرنسية.
شارع فرنسي ملتهب!
ومنذ الساعات الأولى من مساء الاثنين، 27 مايو/أيار الماضي، بدأ المتظاهرون في الاحتشاد بالمئات في ساحة القديس أغوستين وسط باريس، في تظاهرة كانت مجموعة "طوارئ فلسطين" دعت إليها قبل ساعات قليلة من ذلك، تنديداً ببشاعة مجزرة رفح وإدانة لتواطؤ ماكرون مع الحرب المستمرة في غزة.
وشهدت مدن فرنسية أخرى مظاهرات مماثلة، من بينها مدينة مونبيلييه ونانت وستراسبورغ وغرونوبل وتولوز. وقد ردّد المتظاهرون شعارات من قبيل "كلنا أطفال غزة" و"إسرائيل سفاحة وماكرون شريك في الجريمة".
واستمرت هذه الاحتجاجات، في باريس وباقي المدن الفرنسية، على طول الأسبوع. بما في ذلك احتشاد المتظاهرين أمام مبنيي محطتي TF1 وLCI، احتجاجاً على استضافتهما حواراً مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، مستنكرين إتاحة الإعلام الفرنسي مساحة حديث لمجرم حرب.
وفي يوم السبت أيضاً، شهدت باريس مظاهرة حاشدة، انطلقت من ساحة الجمهورية، إذ تجمهر المشاركون حاملين الرايات الفلسطينية حول النصب التاريخي بالساحة، وكتبوا عليه شعار "تحيا فلسطين". وتركزت مطالب المحتجين على حث الحكومة على فرض عقوبات على إسرائيل والاعتراف بفلسطين دولة مستقلة.
وبالتوازي مع هذا، اختار نشطاء وفصائل أخرى التعبير عن تضامنهم مع فلسطين بطرق أخرى. وقام نشطاء في مدينة ليون، من بينهم أعضاء جمعية "فلسطين 69"، مساء السبت، من نشر راية فلسطينية ضخمة بمساحة 1000 متر مربع، أمام مبنى بلدية المدينة.
وتحولت هذه الاحتجاجات في الشارع الفرنسي إلى حراك واسع ومستمر، وهو ما يؤكده توم مارتان، الناطق باسم جمعية "فلسطين ستنتصر"، في حديثه لـTRT عربي، قائلاً: "منذ أن انتشرت صور المجزرة في مخيم الناجين في رفح، شهدنا تطوراً كبيراً في التعبئة الاحتجاجية (المتضامنة مع فلسطين)".
وبحسب المتحدث، فإن هذا التحول مردّه "بشكل أساسي إلى التأثير العاطفي الكبير الذي أثارته تلك الصور، (هذه العواطف) التي اختلطت بين الغضب ضد المتسببين في الإبادة الجارية في غزة، والاشمئزاز من أي دعم تقدمه الإمبريالية الغربية للدولة الصهيونية، الذي يجعل كل هذه الفظائع ممكنة الحدوث".
واسترسل الناطق باسم "فلسطين ستنتصر" موضحاً: "بالرغم من دعمهم المبدئي لوقف إطلاق النار، تستمر القوى الإمبريالية في دعم الدولة الصهيونية سياسياً واقتصادياً وعسكرياً. إنهم يفعلون ذلك لأنها تمثل قاعدة متقدمة لمصالحهم هناك".
وشدّد بأن "هذا هو السياق الذي يجب أن نفهم فيه خروج نتنياهو في التلفزيون الفرنسي، عندما صرح بأن "نصرنا سيكون نصركم". ولهذا نحن نرد عليه بقولنا إن "هزيمتهم ستكون هزيمة الإمبريالية الغربية"، ولهذا السبب يجب علينا دعم مقاومة الشعب الفلسطيني".
امنعوا السلاح عن إسرائيل!
بينما قاد نشطاء تجمّع "أوقفوا تسليح إسرائيل"، حملة ضغط واسعة على هيئة تنظيم المعرض الأوروبي الكبير للأسلحة "Eurosatory"، ونجحوا في إرغامهم على منع شركات السلاح الإسرائيلية من المشاركة فيه.
وفي تصريحات لـTRT عربي، قال لويك، منسق مجموعة "أوقفوا تسليح إسرائيل" في فرنسا: "هذا الانتصار هو أمر ضخم لنا وللقضية الفلسطينية، لأن الشركات الإسرائيلية كانت تربح مئات ملايين الدولارات من العقود التي وقعتها خلال المعرض في نسخه الماضية".
ومنذ منتصف مايو/أيار الماضي، أطلقت المجموعة حملة واسعة للضغط على منظمي "Eurosatory"، شملت "المظاهرات والوقفات الاحتجاجية، الاحتجاج والمضايقة عبر الهاتف، إضافة إلى خطوات قضائية"، وشارك في هذه الحملة "أزيد من 170 جمعيةً ونقابةً وحزباً"، بحسب ما أفاد لويك.
ومنذ اندلاع الحرب، تقود مجموعة "أوقفوا تسليح إسرائيل"، بمعية جمعيات ونشطاء آخرين، احتجاجاً واسعاً على حكومة ماكرون وصناعة السلاح الفرنسية، من أجل ثنيها عن الاستمرار في توريد الأسلحة للاحتلال الإسرائيلي. وكشفت تحقيقات صحفية، شهر مارس/آذار الماضي، تورط الشركات الفرنسية في الإبادة الجماعية بغزة.
وفي هذا السياق، أوضح منسق "أوقفوا تسليح إسرائيل": "نعلم أن موضوع الأسلحة حساس للغاية، وأنه بمجرد كشف أي معلومة حوله، أو توزيع منشورات أو تظاهرة، فإنه يضع الشركات تحت الضغط (...) حتى الآن، ليس لدينا معلومات دقيقة عن حجم المعدات العسكرية التي تُرسل من فرنسا إلى إسرائيل، لكننا نعلم أن هناك قرابة 30 إلى 40 رابطاً بين الشركات الفرنسية والإسرائيلية".
أما عن مدى نجاح هذه الحملة، فقال لويك: "نعلم أن هذه الروابط (بين الشركات الفرنسية والإسرائيلية) نشطة، لكننا لا نعرف بالضبط عدد القطع التي تُباع سنوياً، وما إذا كان هناك انخفاض أم لا، لأن الشركات لن تخبرنا أبداً إذا كانت مبيعاتها انخفضت بسبب حملتنا".
بالتالي، يخلص المتحدث، "يتعذر حالياً الحديث عن نصر واضح لحملتنا، لكننا نعرف أن هذا الأمر يزعجهم حقاً وأنهم لا يريدون أن يكون هناك تواصل بين الحركة التضامنية مع فلسطين والعمال في قطاع الأسلحة، لذا سنفعل كل ما بوسعنا لزيادة هذا التواصل بيننا وبين أولئك العمال".
العلم الفلسطيني في قبة البرلمان
ودخل هذا الحراك الشعبي المتضامن مع فلسطين إلى وسط الجمعية العامة الفرنسية، واشتعل الجدل خلال جلسة يوم الثلاثاء، 28 مايو/أيار الماضي، بعد رفع النائب سيباستيان دولغو العلم الفلسطيني في البرلمان، تزامناً مع مساءلة للحكومة حول الوضع في قطاع غزة.
وأدانت رئيسة الجمعية يائيل برون بيفيه النائبة عن المعسكر الرئاسي، ما وصفته بأنه سلوك "غير مقبول"، وأدى ذلك إلى تعليق جلسة الجمعية الوطنية واستبعاد النائب دولغو منها لمدة 15 يوماً.
وفي تصريح لدولغو لشبكة TRT، قال إن هذه الالتفاتة كانت طريقة له لتوضيح القضية مرة أخرى بعد أن أصبحت أمراً عادياً، مشيراً إلى أن الفيديوهات الخاصة بالانتهاكات على وسائل التواصل لم تعد تشاهَد على وسائل الإعلام الكلاسيكية في أوروبا.
وأضاف النائب الفرنسي: "اليوم أنا فخور لأنني اتخذت هذه الخطوة وأصبحت حديث الإعلام الفرنسي والأوروبي، ما يسمح لنا بإعادة إبراز القضية ومطالبة ماكرون بالاعتراف بفلسطين ودعوة المحكمة الأوروبية إلى قطع التعاون بين إسرائيل والاتحاد الاوروبي، وخصوصاً بيع الأسلحة لجيش الابادة الذي نراه يقتل الشعب الفلسطيني".
من ناحية أخرى، انتقدت النائبة ألما دي فور صمت فرنسا على ما يحدث، وقالت في كلمة لها داخل جلسة البرلمان "يحزنني أن فرنسا التي تدافع عن حقوق الإنسان الآن تدافع عن الأقوى". وأضافت موجهة حديثها إلى الرئيس الفرنسي ماكرون أن "رفح هي مرآتنا ويجب قطع العلاقات الاقتصادية مع إسرائيل، وإن لم تفعل ذلك فاسمح لي أن أسألك كيف ستنظر إلى نفسك في المرآة سيدي الرئيس؟".
وعلى هامش تلك الجلسة، حدثت مشادات كلامية بين النائب اليساري دافيد غيرو والنائب الجمهوري ذي النزعة الصهيونية ماير حبيب. إذ وصف غيرو حبيب بأنه "خنزير يغرق في وحل الإبادة الجماعية". وفي عشيتها، سعى الإعلام للضغط على النائب اليساري للاعتذار، لكنه أكد قائلاً: "الاعتذار الوحيد سيكون لخنازير فرنسا، لأن لا أحد منهم انحط للدفاع عن إبادة جماعية كما فعل حبيب".
ما آفاق الضغط على ماكرون بخصوص غزة؟
ومن جانبه، أعرب الناطق باسم "فلسطين ستنتصر"، عن تفاؤله بصعود وتيرة الحراك التضامني في فرنسا. وقال في تصريحاته لـTRT عربي: "ما جرى مؤخراً منذ استبعدت فرنسا الشركات الإسرائيلية من معرض الأسلحة، يعد نصراً مهماً جرى تحقيقه بفضل هذه التعبئة واسعة النطاق. لكن من الواضح أن هذا نصر جزئي فقط، ويجب أن نواصل التعبئة لمواجهة وإدانة مسؤوليتهم في الإبادة الجماعية".
وفي السياق ذاته، أجرى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، يوم الأربعاء 29 مايو/أيار، مباحثات هاتفية مع رئيس السلطة الفلسطينية عباس أبو مازن. ودعا ماكرون أبو مازن لإجراء إصلاحات حيوية في السلطة الفلسطينية، لتعزيز إمكانية "اعتراف فرنسا بالدولة الفلسطينية".
وفي حديثه لـTRT عربي، يرى سلام الكواكبي، مدير المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في باريس، أن: محادثات ماكرون وأبو مازن "تشبه محادثات رفع العتب، فماكرون ليس لديه سياسة خارجية واضحة ولا مواقف حاسمة. (بالتالي) اعتراف فرنسا بفلسطين مؤجل على الرغم من رمزيته".
وبخصوص المظاهرات وحملات التضامن، أتبع الكواكبي قائلاً: "التحرّك الشعبي مهم، ويشير إلى تغييرات عميقة في الوعي الجمعي الغربي عموماً، والفرنسي خصوصاً، ولكنه للأسف لن يؤثر في قرارات الحكومة الحالية، بقدر ما تؤثر فيه الثروات الكبرى والمصالح الاقتصادية العابرة للحدود وللأخلاق".
















