تابعنا
دعت المحكمة التي تتخذ من لاهاي الهولندية مقرّاً لها، إلى القبض على بوتين "للاشتباه في مسؤوليته عن ترحيل أطفال ونقل أشخاص بلا مسوّغ قانوني من أوكرانيا إلى روسيا"، وذلك منذ بداية الغزو الروسي في 24 فبراير/شباط 2022.

أثارت مذكّرة التوقيف التي أصدرتها المحكمة الجنائية الدولية بحق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في 17 مارس/آذار 2023 بتهم ارتكاب جريمة حرب في أوكرانيا، تساؤلات كبيرة حول دلالاتها في هذا التوقيت بعد مرور عام على اندلاع الحرب بين موسكو وكييف، وتأثيرها في سير المعارك الدائرة.

ودعت المحكمة التي تتخذ من لاهاي الهولندية مقرّاً لها، إلى القبض على بوتين "للاشتباه في مسؤوليته عن ترحيل أطفال ونقل أشخاص بلا مسوّغ قانوني من أوكرانيا إلى روسيا"، وذلك منذ بداية الغزو الروسي في 24 فبراير/شباط 2022.

وبموجب مذكّرة التوقيف التي تشمل أيضاً المفوضة الروسية لحقوق الطفل ماريا لفوفا-بيلوفا، يتعين على الدول الأعضاء في "الجنائية الدولية" وعددها 123 دولة تنفيذها باعتقال المتهمين إذا وطئت أقدامهم أيّاً من تلك الدول، حسب تصريحات المدّعي العامّ للمحكمة الدولية كريم خان لوكالة الصحافة الفرنسية.

ولا تمتلك المحكمة شرطة خاصة لتنفيذ أوامرها، وتعتمد كلّيّاً على تعاون الدول الأعضاء، كما أنها لا تستطيع محاكمة المشتبه بهم غيابياً، مما يزيد التحديات التي تواجهها "الجنائية الدولية"، بخاصة أن روسيا وحليفتها الصين ليستا عضوين فيها.

رد وتحرُّك روسي

الناطق باسم الكرملين ديمتري بيسكوف قال إن روسيا "لا تعترف بصلاحية الجنائية الدولية واختصاصاتها، وبالتالي من وجهة نظر قانونية، فإن قراراتها باطلة".

كما قالت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا، إنه "لا معنى لقرارات المحكمة الجنائية الدولية عند بلدنا"، مشيرة إلى أن روسيا "ليست طرفاً في نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية ولا تتحمل أي التزامات بموجبه".

بدوره اعتبر نائب رئيس مجلس الأمن الروسي، ديمتري ميدفيديف، أن قرار الجنائية الدولية محاكمة بوتين، سيأتي بعواقب وخيمة على القانون الدولي بعدما قرّر قضاتها "محاكمة رئيس قوة نووية".

ولم تكتفِ موسكو بالتصريحات، بل ردّت بفتح قضية جنائية ضدّ المدّعي العامّ للمحكمة الجنائية الدولية وقضاتها، مؤكدة أن المحكمة "لا تملك الأسباب ولا الأساس القانوني لملاحقة المواطنين الروس، فكيفَ برئيس دولة مثل روسيا يتمتع بحصانة دولية مطلقة؟" حسب وكالة "نوفوستي".

كانت روسيا وقّعَت قانون روما التأسيسي للمحكمة، لكنها لم تصدّق عليه لتصبح عضواً فيها، ثم سحبت توقيعها بأوامر من بوتين عام 2016 بعدما أطلقت المحكمة تحقيقاً في حرب جورجيا عام 2008، التي كانت موسكو طرفاً فيها.

في المقابل رحبت واشنطن والدول الغربية بمذكرة التوقيف بحقّ بوتين، واعتبرها الرئيس الأمريكي جو بايدن "مبرَّرة"، وقال إن المحكمة الجنائية الدولية غير معترَف بها لدى بلاده، إلا أن خطوتها "تُعتبر نقطة قوية للغاية"، مشدداً على أن نظيره الروسي "ارتكب جرائم حرب واضحة".

لكن وكالة الصحافة الفرنسية نقلت عن سيسيلي روز، الأستاذة المساعدة في القانون الدولي العامّ في جامعة ليدن الهولندية، أنه من غير المرجَّح أن ينتهي المطاف ببوتين في قفص الاتهام بسبب جرائم حرب "ما لم يتغيّر النظام في روسيا".

بين القانوني والمنطق

الخبير بالقانون الدولي الدكتور محمود رفعت يقول إنه منذ بدأ عمل المحكمة الجنائية الدولية كان لها شقان: الأول نظريّ يستند إلى أن قراراتها فوق سيادية، أي إن الدول الأعضاء يجب أن تنصاع لأوامرها وتنفّذ مذكراتها، فيما يعتبر الشق الآخر عملياً كقضية الرئيس السوداني السابق عمر البشير عندما لم تنصَع دول أعضاء بالمحكمة في مسألة تسليمه عندما كان يزور تلك الدول.

وحول دلالات إصدار المذكرة بعد عام من الحرب، يعتقد رفعت في حديثه لـTRT عربي أن "الأمر طبيعي قانوناً، ولكنه مخالف للمنطق، لأن دولاً أخرى وقعت فيها انتهاكات إنسانية أكبر مما وقع بأوكرانيا، ولكن الجنائية الدولية لم تلتفت إليها، بما يثير تساؤلات" حسب قوله.

ويستبعد أن يكون لمذكرة توقيف بوتين "أي تأثير عملي على مسار الحرب في أوكرانيا"، مستنداً في رأيه إلى أن المذكرة "لن تردع الرئيس الروسي، لصعوبة تسليم رئيس دولة بحجم روسيا، وهي دولة نووية".

ويشدّد على أن "التصعيد في أوكرانيا ليس مرتبطاً بهذه المذكرة، بل بالمعارك نفسها"، مشيراً إلى توقعات خبراء استراتيجيين تستند إلى معلومات متوفرة من الأقمار الصناعية الخاصة بالناتو أو الولايات المتحدة، تتحدث حول تصعيد مرتقَب في الربيع وقبل دخول الصيف.

ويستبعد رفعت كذلك أي تأثير للمذكرة في الداخل الروسي، لأنه "لن تفعّل مذكرةَ التوقيف دولة كبرى تتعامل مع موسكو كالصين، كذلك لا تهديد لبوتين من الدول التي أصبح الاقتصاد الروسي يعتمد عليها".

قرار مهم وكبير

أما أستاذ العلوم السياسية الناصر الدريد فيصف قرار المحكمة بالمهمّ والكبير، "لا من ناحية إمكانية تنفيذه"، بل بسبب الرسالة التي أرسلها العالم الغربي ومفادها أن "قراراً قد صدر بعدم التعامل مع الرئيس الروسي".

ويوضح الدريد في حديثه لـTRT عربي أنه عندما يُعتبَر بوتين مُلاحَقاً قضائياً فهذا يعني أن الرئيس الروسي "أصبح شخصاً غير مرغوب فيه داخل المجتمع الدولي"، مشدّداً على أنه سيلاحَق مهما كانت نتائج الحرب الدائرة.

ويتوقع أن هذا سيفتح الباب على مصراعيه أمام محاكمات قضائية محتمَلة على "جرائم ارتُكبت داخل روسيا، وقد تمتدّ إلى ما حدث في الشيشان وسوريا وأماكن أخرى في العالم".

ويعتقد أن صدور المذكرة يشير إلى أن تسوية قضية أوكرانيا "فات آوانها لدى المجتمع الدولي"، قبل أن يجدد تأكيده في ختام حديثه أنها "خطوة كبيرة".

قرار مسيس ودعائي

لكن الكاتب والمحلل الفلسطيني طلال عوكل قلّل كثيراً من قرار المحكمة الجنائية الدولية، وقال إنه "يعكس طبيعتها المسيسة ومزدوجة المعايير"، علاوة على أنها تقع تحت ضغط وتأثير واشنطن.

ويرى عوكل في حديثه لـTRT عربي أن قرار الجنائية الدولية ضدّ بوتين "دعائي سيُضعِف مكانتها إذا أقدمت روسيا وحلفاؤها على تشكيل مؤسسة قضائية موازية"، مستبعداً أي تأثير للقرار على الرئيس الروسي داخلياً وخارجياً.

ضغط على الروس

من جانبه يقول المستشار الكويتي بالقانون الدولي أنور الرشيد إن صدور مذكرة التوقيف بحقّ بوتين يندرج في إطار ما وصفه بـ"جرائم الحرب التي ارتُكبت في أوكرانيا"، مستنداً في حديثه إلى "تقارير موثقة تحدثت عن وفاة أكثر من ألف شخص شهرياً من المدنيين لا العسكريين في البلد الأوروبي"، إضافة إلى الدمار الكبير الذي لحق بالبنية التحتية المدنية في أوكرانيا.

ويبيّن الرشيد في حديثه لـTRT عربي أن ما يحدث في أوكرانيا ومروره بلا عقاب بعد كل التجارب التي مرّت بها البشرية في القرن الماضي، يُعَدّ "مؤشراً خطيراً للأوروبيين وسط خشية من توسع نطاقه".

وقد تحدّ مذكرة التوقيف ضدّ بوتين، حسب الرشيد، من "الجرائم المرتكبة ضد المدنيين ومنشآت البنى التحتية والطاقة".

ويعتقد أن لمذكرة التوقيف دلالة ورسالة مفادها أنه "لا يمكن التغاضي عن جرائم حرب والتحقيق فيها"، كما أنها ستضع الدول الأعضاء والتصديق على اتفاقية روما في حالة حرج إذا قرّر بوتين زيارتها كما فعل البشير سابقاً.

وخلص في ختام حديثه إلى أن المذكّرة ستشكّل ضغطاً على الروس، معتقداً أن "لها تأثيراً بشكل أو بآخر، وستدفع باتجاه إيجاد حلّ ومخرج خصوصاً للحرب الدائرة"، مع زيارة الرئيس الصيني شي جين بينغ موسكو، كما استبعد في الوقت نفسه "إقدام بوتين على تصعيد أكبر في حرب أوكرانيا".

TRT عربي