يحيي الأتراك الذكرى السابعة لإحباط المحاولة الانقلابية التي نظمتها عناصر من الجيش تتبع تنظيم فتح الله غولن الإرهابي، ويستذكر مئات الآلاف من المواطنين دورهم وموقعهم في إفشال المحاولة الانقلابية. فقد ساهمت الاستجابة الشعبية القوية وروح التحدي التي أظهرها الأتراك في مختلف المدن والميادين في انتصار الإرادة الشعبية والحيلولة دون رجوع تركيا لعصر الانقلابات العسكرية.
وفيما يلي مجموعة من الشهادات لأشخاص عايشوا تلك الملحمة وكان لهم دور فيها.
وتكشف الشهادات كيف خرج أصحابها إلى الشوارع والميادين ليلة الانقلاب، وما تعرضوا له وكيف واجهوا الانقلابيين.
متين دوغان: 15 تموز.. أن تعطي روحك لمن تحب من دون أن يرف لك جفن
أدرك أستاذ الرياضيات والرياضي متين دوغان أن شيئاً ما يحصل في ليلة 15 تموز عندما خرج من صالة الألعاب الرياضية وركب الحافلة وسمع حديث الناس حول المحاولة الانقلابية.،وكان طوال الفترة السابقة لم يتابع دوغان الأخبار ولم يهتم بمشاهدة التلفاز أو النشاط على وسائل التواصل الاجتماعي. ويسرد دوغان حكايته ليلة 15 تموز قائلاً: "بعد وصولي إلى المنزل قادماً من الصالة الرياضية، فتحت التلفاز وأدركت أن ما تحدث به الناس في الحافلة صحيح، كنت قلقاً من احتمالية خروج بعض الناس فرحين بالمحاولة الانقلابية، وعدم خروج الأغلبية المعارضة للانقلاب إلى الشارع... وجال في خاطري أن عشرات الآلاف من الناس سوف يقتلون.
وفي تلك اللحظة اعتقدت أن رؤية الناس لشخص يسحق تحت جنازير الدبابات سيدفعهم للخروج والمشاركة بقوة الاحتجاجات، اتخذت القرار بشكل سريع، ونهضت خارجاً من المنزل، لم يكن لدي أي وسيلة للنقل، وسيارات الأجرة لم تكن تعمل.
رأيت في تلك اللحظة دراجة نارية ولوهلة فكرت في الاستيلاء عليها بالقوة ولكني خاطبت السائق قائلاً "لأجل الله هل تقلني إلى المطار؟ ومن دون تفكير وافق الشاب، كانت الطرق مغلقة بالسيارات العاجزة عن الحركة، وبفضل الدراجة النارية تمكنا من تجاوز زحام السيارات والوصول إلى المطار.
عندما رأيت الجنود طلبت من الشاب التوقف جانباً ومغادرة المكان خشية أن يصيبه مكروه, فالغاية كانت أن أصل إلى المطار، ودراجة الشاب متهالكة والوقود بدأ ينفد منها، أخرجت ما في جيبي من مال ووضعته في يد الشاب الذي رفض قبوله.
تجمع العشرات أمام المطار، وأطلق أحد الجنود النار لتفريق وتخويف الناس، وعند سماع صوت الطلقات استجمعت قوتي وانطلقت نحوهم بكامل قواي، فكرت كثيراً فيما سوف أقوله لهم، لكن عندما وصلت لم أتحدث بأي شيء. وبشكل عفوي صرخت رافعاً يدي " أنا جندي تركي، أي الجنود أنتم؟". خرج من الدبابة ثلاثة جنود وتبادلوا النظرات قائلين من هذا؟ صرخوا وسبّوا ليدفعوني للابتعاد عنهم.
وعندما تحركت الدبابة، ألقيت نفسي تحت جنازيرها، على الرغم من تأديتي للخدمة العسكرية، فإنه لم يسبق لي أن رأيت دبابة من قبل".
ويتابع دوغان "نطقت الشهادتين، وسمعت صوت فرامل الدبابة وصراخ الناس، عندها خلعت قميصي ورميته تجاه الجندي على ظهر الدبابة قاصداً استفزازه، فكلما زادت وحشية قتلهم لي تحرك الناس أكثر.
بدأ قائد الدبابة بالصراخ وتوجيه مسدسه نحو السائق للمضي قدماً، فقد أدركت أن إيقاف الدبابة الأولى في قافلة الدبابات سيعني إيقاف القافلة كلها. أصدرت الدبابة أصواتاً مختلفة لإخافتي، لكني بقيت ثابتاً، قلت في نفسي إني سأموت، فجنزير الدبابة لامس كتفي قبل أن تتوقف.
بدأ الناس بالصراخ وتجمعوا حول الدبابة الثانية لإيقافها، في البداية كانوا من 10 إلى 20 شخصاً ثم ارتفع العدد إلى 40-50 شخصاً، ولاحقاً بعد نداء الرئيس وصلت الأعداد في الشوارع والميادين إلى الملايين.
شعرت بعدها بأن دوري انتهى وعدت إلى المنزل، لم أخبر أحداً بما جرى ولم أكن أرغب في ذلك، علمت لاحقاً أن سائق الدبابة قتل لعدم إطاعته أوامر قائده بدعسي".
واختتم دوغان حديثه قائلاً: "ليلة 15 تموز هي اللحظة التي تعطي فيها روحك لمن تحب من دون أن يرف لك جفن".
صفية بايات: امرأة في مواجهة نيران الانقلابيين
صفية بايات ربة منزل وأم لطفلين كانت من أوائل من وصل إلى جسر البوسفور (لاحقاً جسر شهداء 15 تموز)، حاولت إقناع المشاركين في المحاولة الانقلابية بالعدول عن محاولتهم الانقلابية.
كما روت بايات، فقد بدأت حكايتها كالتالي: "عندما رأيت الجنود والدبابات على جسر البوسفور، أدركت أننا في حالة حرب، لبست ثوباً ثقيلاً، وجهزت حقيبة الظهر وملأتها بالأدوية وضمادات الجروح، وبطاريات الهواتف. لم نكن ندرك ما سوف يجري أو ما سوف يحل بنا.
مشيت من منزلي في غوزال تبه إلى منطقة تشنغيل كوي ومنها إلى الجسر.
عندما وصلت ورأيت أعلام تركيا كان ذلك باعثاً للأمل في داخلي. وحمدت الله في نفسي لأني رأيت أعلامنا في مواجهة هذه الدبابات، وأدركت وقتها أننا أمام محاولة للاحتلال.
تضيف بايات "واصلت المشي نحو الدبابات والجنود على الرغم من تحذيرات الشباب لي، ومع إطلاق النار شعرت وكأن الجسر يهتز، لم أصدق أنهم من الممكن أن يفعلوا ذلك بي، وعندما وصلت صرخ بي أحد الضباط الخونة قائلاً ما الذي تحاولين فعله؟ ما جاء بك هنا؟ جاوبته بالسؤال عن سبب وجودهم هنا، ولماذا يطلقون النار؟ رد الضابط اذهبي من هنا وإلا قتلناك، لماذا لم ترجعي عندما أطلقنا النار عليك؟ كنت أحاول مخاطبة ما تبقى من براءة في نفوسهم.
تدخل أحد الجنود قائلاً دعني أطلق عليها النار، بينما أراد الآخر القبض عليّ، وفي تلك اللحظة تقدم ضابط منهم نحوي ووضع البندقية بجوار خدي وأطلق النار، تناثرت آثار شظايا الطلقة على وجهي وكامل جسمي، لكني لم أخف وصرخت قائلة لن أرجع ولست خائفة منكم، عندها سحبني مرة أخرى وضربني بأخمص البندقية.
وتحت أصوات إطلاق النار عدت إلى الخلف وحذرت الناس، هؤلاء ليسوا جنودنا إنهم مجموعة من الخونة، امتلاء الشارع بأصوات التكبير، في تلك اللحظة أدركت شجاعة الرجل التركي وإقدامه، ورأيت رغبتهم الصادقة في حمايتي من أي أذى، بينما قمت بمساعدة الجرحى والمصابين.
هرعت لمساعدة سيدة مصابة كانت إصابتها بالغة، وعندها تعرضت للإصابة بقدمي، وأعتقد أن هذه السيدة استشهدت لاحقاً".
يوسف أوزغون: أقسمنا على ارتداء الكفن مع رئيسنا الذي يخرج كل يوم مرتدياً كفنه
يصف يوسف أوزغون الذي يعمل في التجارة اللحظات التي عاشها برفقة الآلاف في ليلة 15تموز، قائلاً: "في ليلة 15 تموز كنت جالساً مع صديقي في أحد محال الحلويات في منطقة مالتبه بالشطر الآسيوي من إسطنبول، اتصل بي صديقي ليعلمني بإغلاق جسر البوسفور، لوهلة اعتقدنا أن نزول الدبابات جاء للمساندة في مواجهة نشاط إرهابي، لكن اتصالاً آخر من صديقي أكد فيه أن محاولة انقلابية تجري. وفي تلك اللحظة توجهنا مباشرة إلى مبنى حزب العدالة والتنمية في منطقة مالتبه.
تجمع الناس من كل حدب وصوب، لم نخف من أصوات طائرات F-16، كان قلقنا الأساسي الرئيس أردوغان، فالجسد بلا رأس لا قيمة له. في ذلك الوقت جاء نداء "اخرجوا إلى الشوارع" من الرئيس أردوغان، وفي لحظة تحولت مخاوفنا وتعاستنا إلى أمل.. أقسمت والآلاف معي على ارتداء أكفاننا مع رئيسنا الذي يخرج كل يوم مرتدياً كفنه.
توجهنا بعد ذلك إلى جسر البوسفور، ولا يزال صوت الرصاص في أذني، كان ابني أول من خطر على ذهني، إلا أني فكرت في أنه قد يعيش بلا أب، ولكن سيظل فخوراً به طوال حياته، لأن والده سقط شهيداً في مواجهة القوى الإمبريالية والصهيونية، كنا ننتظر الموت ونمضي تحت نيرانهم.
ومع الصباح، أخبرنا مدير في الأمن بضرورة التوجه إلى ثكنة الجنرال نور الدين بارنسال وإغلاقها، ولو لم يتم ذلك لتضاعف عدد الشهداء، لأنهم كانوا في الثكنة على اتصال مع القوات الموجودة على الجسر. وخلال حضوري هناك صرخ أحد الضباط في الثكنة قائلاً إن قائده سقط "شهيداً" على الجسر، لم أتمالك نفسي وقبضت عليه من ياقته صارخاً فيه عن أي شهادة تتحدث؟ هؤلاء عديمو الإيمان باعوا أنفسهم وأرواحهم، كيف يمكن لمن يحارب هذه الأمة والوطن والعلم أن يكون شهيداً؟".
واختتم أوزغون حديثه قائلاً: "في ليلة 15 تموز انتهت هيمنة الإمبريالية على هذه البلاد، ونهضت الأمة من جديد، هذا اليوم الذي زهق فيه الباطل وظهر فيه الحق... هذه الليلة كانت ملحمة الأمة التركية والـ81 مليون تركي".
وفي 15 تموز 2016 شهدت تركيا، محاولة انقلاب فاشلة نفذتها عناصر محدودة من الجيش تتبع تنظيم "فتح الله غولن" الإرهابي، وحاولت خلالها السيطرة على مفاصل الدولة ومؤسساتها الأمنية والإعلامية، واغتيال الرئيس رجب طيب أردوغان.
وقوبلت محاولة الانقلاب باحتجاجات شعبية عارمة في معظم المدن والولايات التركية، إذ توجه المواطنون بحشود غفيرة نحو مبنى البرلمان، ورئاسة الأركان بالعاصمة، ومطار أتاتورك الدولي بمدينة إسطنبول، ومديريات الأمن في عدد من المدن، ما أجبر آليات عسكرية كانت تنتشر حولها على الانسحاب، وساهم بشكل كبير في إفشال المخطط الانقلابي.


















