زاوية سيدي بلعباس الذي سميت العباسية نسبة إليه (TRT Arabi)
تابعنا

قبل أسبوعين افتتح المغربي يونس مشروعه الخاص ببيع مأكولات البطاطا وعصير البرتقال، واستقبل في يوم الافتتاح المارة وسكان المنازل والدكاكين المجاورة لتناول المأكولات التي يعرضها محله مجاناً، وهي عادة يتمسك بها الكثير من أرباب محال الطعام في المغرب.

يقول يونس لـTRT عربي إن هذه العادة معروفة في المغرب وتُسمَّى العباسية، وقد وجد آباءه وأجداده يتداولونها فسار على هذا النهج، ويضيف أن تقديم ما ينتوي المرء بيعه في محله من طعام مجاناً في أول أيام انطلاق المشروع هدفه طلب البركة من الله والتوفيق، وتفاؤل بالنجاح.

وليس أصحاب محال الطعام والمقاهي من يحرصون على تقديم العباسية في اليوم الأول، بل كذلك يعمل أصحاب الحمامات التقليدية على تقديم خدمتهم في اليوم الأول دون مقابل.

ويوضح يونس أن التجار الذين يتاجرون في المواد الاستهلاكية والملابس وغيرها يعرضون هذه العباسية على شكل تخفيضات في بداية تجارتهم.

افتتح يونس مشروعه الخاص ببيع مأكولات البطاطا وعصير البرتقال، واستقبل في يوم الافتتاح المارة وسكان المنازل المجاورة لتناول المأكولات التي يعرضها محله مجاناً (TRT Arabi)

وارتبطت كلمة العباسية بمعاني العطاء والكرم والجود، فالتاجر يزن لزبونه المكيال الذي يحتاج إليه من أي سلعة، ويضيف إليه زيادة يسميها العباسية، وعلى الرغم من أن الكثير من المغاربة اليوم لا يعرفون أصل هذه العادة فإنهم يتمسكون بها، ويحرصون عليها، ويتداولونها فيما بينهم، فما العباسية؟ وما أصلها؟

أصل العباسية

تنسب العباسية إلى أحد رجالات مراكش المشهورين وهو أبو العباس السبتي الذي يطلق عليه المغاربة سيدي بلعباس، وهو عالم ومتصوف صالح ارتبط اسمه بالكرم والجود.

ولد سيدي بلعباس واسمه الكامل أحمد بن جعفرالخزرجي بمدينة سبتة عام 1129، ثم انتقل إلى مراكش في عهد الدولة الموحدية، وبها مات عام 1204.

نشأ أبو العباس يتيماً، وكانت والدته تأخذه ليعمل عند نساج الحرير، لكنه كان يهرب من العمل ويذهب إلى أحد فقهاء سبتة ليتعلم منه علوم الدين.

في مدينة مراكش التي انتقل إليها وهو في عقده الثاني، بدأت معالم مذهبه التضامني تتضح، فكان ينفق على الطلبة القادمين من خارج مراكش، ويتجول في الأسواق والطرقات محبباً الناس في الصدقة ومبيناً آثارها على الفرد والمجتمع، فكان الناس يتأثرون بكلامه، ويأتونه بصدقاتهم ليفرقها على المساكين.

وممَّا يحكى عنه أنه إذا اتاه أحد يشكو هماً وضائقة أو يعاني مشكلة يدعوه إلى التصدق، لأن الصدقة في نظره تبعد الهم وتحل المشاكل، فالاستجابة كما يرى مرتبطة بالعطاء، وحتى إذا ما شكا له أحد بأنه لا يملك ما يأكله كان يقول له اقترض وتصدق يأتك ضعف ما صرفت.

حمام تقليدي بالمغرب وتعرف الحمامات بتقديم خدماتها بدون مقابل في اليوم الأول لفتحها (TRT Arabi)

يقول العلماء إن أبي العباس عمل في أول الأمر على اقتسام ما في يده مع الفقراء فيخصص النصف لحاجياته ويتصدق بالنصف الآخر، وظل على هذا المنوال عشرين سنة، ثم قرر بعدها أن يحتفظ بثلث ما يأتيه وينفق الثلثين، وفي النهاية عاهد الله على أن يعطي تسعة أعشار ويحتفظ لبيته بالعشر، وكان يقول قولته الشهيرة: أصل الخير في الدنيا والآخرة الإنفاق، وأصل الشر في الدنيا والآخرة البخل.

الجود الجماعي

بعد ثمانية قرون من وفاته، ما يزال مرقد أبي العباس السبتي في مدينة مراكش يعج بالحركة، يقصده الراغبون في التصدق ويحج إليه الفقراء والمحتاجون لطلب ما يحتاجون إليه من طعام ولباس.

وما يزال الكثير من تجار المدينة القديمة في مراكش يحرصون على أن يكون ثمن أول ما يبيعونه صبيحة كل يوم "عباسية" ، فيضعونه صدقة في صندوق زاوية أبي العباس السبتي.

وفي زمنه اشتهر أبو العباس ومذهبه التضامني والإحساني في المغرب وخارجه، حتى إن الفيلسوف والفقيه ابن رشد الحفيد أرسل شخصاً ليستعلم عن مذهبه، ولما علم عنه قال: هذا رجل مذهبه أن الوجود ينفعل بالجود.

يقول الباحث في التاريخ عدنان بن صالح إن المغارِبة معروفون بتوقير العلماء والمتصوفة، ولأن منهج أبي العباس السبتي كان قائماً على الجود الجماعي، إذ حَض كل فَرد في المجتمع على التصدُّق، والإنفاق ممَّا آتاه الله مادياً أو عَينياً، صغيراً أو كبيراً، فقد عظموه وجعلوه واحداً من رجالات مراكش السبعة الذين يزور الناس زاويتهم إلى اليوم.

مذهب حي منذ قرون

يشير بن صالح لـTRT عربي إلى أن طريقة السبتي كانت هادئة لينة، مُلِحة، آلَفت بين القلوب، وشجعت على الإحسان العمومي، ودعّمت التضامن، ودعت للمُشاطرة ولو بِشق تمرة، فاتفقت على مَحبته العامة والنخبة.

ويضيف أنه ظل بجميل صبره وحسن خلقه ولين دعوته ودائب سعْيه لمصلحة البسطاء يَترقى في سلم المحْبوبية، حتى أحبه أهل المغرب حياً وميتاً، وعظموه، حتى قيل فيه إنه كان "مقصوداً في حياته، مُستَغاثاً به في الأزمات".

واختلفت أنواع الاستغاثة به، بالتصدق تارة، وإقامة الولائم، وإكرام الضيوف وعابري السبيل وتوزيع الأطعمة على البيوت الفقيرة، وإعطاء نصيبٍ كبير من الإرث للشيخ (لما كان حياً) وباسمه بعد وفاته.

ويشير بن صالح إلى أن طرق الناس في تخليد اسم أبي العباس السبتي اختلفت من جيل إلى جيل ومن قرن إلى قرن، فقد شُيد له ضريح حظي بعناية الحكام من عهد الموحدين إلى عصر الدولة العلوية، واستُحْدثت صدقات باسمه، بقيت تشمل الفقراء وذوي الحاجات واليتامى والأرامل، وهناك صندوق يضع فيه زوار ضريحه أموالاً "وعبّاسية" تُوزّع فيما بعد. وفي السياق المعاصِر، يقيم بعض أصحاب المحال التجارية والمطاعِم حفلات "العبّاسية" إكراماً لمذهبه وطريقته.

فالعباسية، بحسب الباحث، مبادرة مجتمعية تذكر كل مبادر بها بما كان عليه الشيخ السبتي في حياته، من التصدق والعطاء والبذل، ويقوم بها الشخص طلَباً للبركة، واستبشاراً بنجاح التجارة، وتطبيقاً لمنهج السبتي الذي يقوم على ضرورة التصدق بنسبة من الملك الخاص، سواء أكان مالاً أم داراً أم ثياباً.

TRT عربي
الأكثر تداولاً