أعلنت إثيوبيا في الأسبوع الأول من شهر يناير/كانون الثاني الماضي، إبرام اتفاق مع إقليم أرض الصومال -الإقليم الذي أعلن انفصاله عن الصومال من طرف واحد ولا يحظى بشرعية دولية.
وتمتلك أرض الصومال بموجب الاتفاق المبرم حصة في شركة الطيران الإثيوبية، مقابل إنشاء قاعدة عسكرية بحرية لإثيوبيا على شاطئ صوماليلاند "أرض الصومال" المطل على جنوب البحر الأحمر، وتأجير ميناء بربرة.
أعلنت مصر وتركيا وكثير من الدول العربية التمسك بوحدة الأراضي الصومالية، ورفض هذا الاتفاق. ومن جهته قام الرئيس الصومالي في مقديشو حسن شيخ محمود، الذي يمثل الحكومة الشرعية بإلغاء الاتفاق، مع ظهور بوادر أزمة جديدة بين مقديشو وأديس أبابا.
يأتي الاتفاق ضمن المحاولات الحثيثة لإثيوبيا لأن تكسر حدود الجغرافيا بوصفها أكبر دولة حبيسة في العالم، وإيجاد موطئ قدم على ساحل البحر الأحمر، ولهذا الحدث جذور تاريخية قديمة، وسياسية حديثة نستعرضها في هذا المقال.
جذور الصراع
للصراع في القرن الإفريقي جذور تاريخية عميقة؛ فهذه المنطقة مطلّة على البحر الأحمر شهدت تنافساً امتزجت فيه الاعتبارات العرقية والدينية، ومع بداية انتشار دعوة الإسلام كانت الكنيسة الإثيوبية في أكسوم توظِّف الدين المسيحي بوصفه موحِّداً إمبراطورياً لشعوب تلك المنطقة المتنوعة والمتناثرة الأعراق واللغات والأديان، ما جعلها تَعدّ الإسلام التهديد الأبرز لها.
مع هجوم الأحباش على جدة في عهد عبد الملك بن مروان، سعت الدولة الأموية لحصار الأحباش بفرض سيطرة بحرية عليهم، وتحويل البحر الأحمر إلى بحيرة عربية وإسلامية، ونشر الإسلام على طرفيه، بل عدّ وصول قوات الصليبيين أو أي أديان أخرى إلى ذلك البحر تهديداً لمكة.
وفي عهد الظاهر بيبرس استعادت الأسرة السليمانية، على يدي إيكونو، أملاك عرش أكسوم بعد التحالف مع المسلمين في الصومال، وأرسل إيكونو إلى بيبرس أن يسمح لرأس الكنيسة الإثيوبية بأخذ البركة من مرقسية الإسكندرية؛ فقد كانت الكنيسة الإثيوبية حتى وقت قريب تتبع الكنيسة الأرثوذكسية المصرية، وذلك لأن الأب فرومنتيوس الذي تنصّر على يديه الملك عيزانا في القرن الرابع الميلادي، جاء من مصر، وعمّدته الكنيسة المصرية.
نظرت الأسرة السليمانية إلى مصر على أنها تهديد، خصوصاً بعد عودة النزاع بين المسلمين والمسيحيين في القرن السادس عشر الميلادي، إذ اجتاح أحمد بن إبراهيم الغازي أكسوم في القرن السادس عشر، وفي الصراع بين الصومال وإثيوبيا انحازت الدولة العثمانية في عهد سليمان القانوني إلى الصومال، إذ كانت تمثل القوة المسلمة، ومُنع وصول المسيحيين الإثيوبيين إلى البحر الأحمر في الصراع الذي استمر لسنوات بين 1529 و1941م، في الوقت الذي دعمت فيه البرتغال إثيوبيا، استمراراً للحروب التي شنها البرتغاليون على العالم الإسلامي من أطرافه.
أدى الدعم البرتغالي إلى توسّع التبشير الكاثوليكي في إثيوبيا، وهو ما استفزّ الكنيسة الأرثوذكسية الإثيوبية، ودفع إثيوبيا إلى الانعزال أكثر. وسياسة العزلة كانت لها دوافعها الثلاثة: أولاً، انتشار دعوة الإسلام في القبائل والعرقيات التي تشكل سكان الهضبة الإثنية. ثانياً، تطويقها من الشرق بوجود المسلمين، والحيلولة بين إثيوبيا وبين وصولها إلى البحر الأحمر تحوّلها إلى قوة فاعلة فيه. وأخيراً، العزلة بسبب طمع الأوروبيين في نشر مذاهبهم الدينية لتوظيفها في الصراع الصليبي ضد العالم الإسلامي.
محددات السياسة الخارجية الإثيوبية
مع ازدياد الأطماع الاستعمارية في منطقة القرن الإفريقي، والرغبة في السيطرة على خطوط التجارة هناك، خصوصاً مع احتلال عدن، جنوبي اليمن (1839)، وأرض الصومال (1883)، بدأت القوى الاستعمارية بتقديم صورة جديدة عن إثيوبيا تمهيداً لاستخدامها كياناً وظيفياً في المنطقة، كما تزامن ذلك مع انتشار حملات التبشير البروتستانتية، التي وجدت موطئ قدم خلاف الماضي.
أدركت إثيوبيا أنّ عليها التحالف مع الغزاة وتحديداً بريطانيا التي ساعدتها على حربها ضد المهدية في السودان، وزادت أهمية هذه العلاقة بعد أن سيطرت إيطاليا على جنوب الصومال، وفرنسا على جيبوتي أقصى شماله.
استوعبت بريطانيا المطالب الإثيوبية وساعدتها على تحقيقها، وفي نفس الوقت حققت من خلال إثيوبيا كثيراً من المصالح، لوقف الزحف الفرنسي، وحتى الإيطالي.
ومع نهاية الحرب العالمية الثانية، وبعد عودة الإمبراطور الإثيوبي من المنفى واستعادته العرش، بعد هزيمته أمام الجيش الإيطالي وفراره إلى السودان فالقدس ومنها إلى إنجلترا، صاغ المحددات الخارجية لسياسة بلاده: أولها استعادة الدور الوظيفي من خلال علاقة قوية مع قوة كبرى تقدم المساعدات العسكرية والاقتصادية لها لتكون لاعباً قوياً في الإقليم. والثاني هو التقليل من آثار القومية العربية أو الوحدة الإسلامية لأنها تتعلق بالسلامة الوطنية لإثيوبيا. والثالث تعزيز الوحدة الأفريقية، التي تعارض الانفصال العِرقي. وأخيراً، الحصول على منفذ إقليمي على البحر أو الحفاظ عليه.
ماذا حققت إثيوبيا من المحددات الأربعة؟
حصلت إثيوبيا على إريتريا بدعم الأمم المتحدة في 1952، وأصبح لها وجود على البحر الأحمر من خلال ميناء "مصوع"، لكنها خسرته بحلول عام 1991 مع استقلال إريتريا.
كما أنّها استطاعت تفتيت المكونات العربية والإسلامية من حولها، إذ سيطرت على أرض أوغادين الصومالية، وأسهمت في تشرذم الصومال الذي بلغ مداه دعم المعارضة ضد سياد بري، ودعم الحركات الانفصالية في صوماليلاند "أرض الصومال"، والتنسيق مع كينيا التي تسيطر على بعض أراضي الصومال وشعبها، إذ تمثل مساحتها 20% من مساحة كينيا.
اتخذ العرب بشكل مبكر موقفاً داعماً للصومال في مواجهة إثيوبيا، وكذلك دعم حركات الانفصال الإريترية ضد نظام هيلاسيلاسي، وتعقدت الأمور أكثر عند تحول إثيوبيا نحو المعسكر السوفييتي بعد انقلاب 1974 وتولي هيلاري منغستو، تحديداً في حرب أوغادين 1977 بعد أن مُني الجيش الإثيوبي بالهزيمة.
أرسل الاتحاد السوفييتي الأسلحة، وكوبا واليمن الجنوبي المقاتلين؛ لدعم إثيوبيا، في مقابل دعم باهت من مصر التي كانت قد بلغت ذروة العداء لإثيوبيا مع التحول المصري إلى المعسكر الأمريكي بعد حرب 1973 وتشكيل مصر مع السعودية وفرنسا وإيران نادي السفاري لتقويض انتشار الشيوعية في المنطقة.
وتحولت إثيوبيا إلى دولة وظيفية في إطار الصراع العربي-الإسرائيلي، إذ وظّفت جهودها الإفريقية في تطبيع العلاقات مع إسرائيل ومع بقية الدول الإفريقية، ونشأت بينها وبين إسرائيل وشائج خاصة، إلى حدّ وجود خبراء إسرائيليين في أديس أبابا.
لم تتغير العلاقات الإثيوبية تجاه إسرائيل إلا خلال فترة محدودة جداً إبان حرب 1973 حتى 1977، قبل أن يطرد منغستو الخبراء الإسرائيليين عام 1978، وستعود العلاقات البراغماتية مع إسرائيل في إطار تبادل يهود الفلاشا عبر عمليتَي موسى وسليمان مقابل الأسلحة الروسية التي حصلت عليها إسرائيل من اجتياح بيروت.
بلغت ذروة الدور الوظيفي لإثيوبيا عام 2006 عندما اجتاحت الصومال لاستئصال المحاكم الإسلامية، مشاركةً بذلك في حروب الإرهاب الأمريكية، وتأمين مسار البحر الأحمر وخطوط التجارة، ولم تحظَ مع ذلك بإمكانية الوصول إلى مياه البحر الأحمر.
ماذا تحقق إثيوبيا بالوصول إلى خليج عدن؟
فقدت البحرية الإثيوبية اتصالها بقاعدة "مصوع" بعد سيطرة الجبهة الشعبية لتحرير إريتريا على الطريق الرابط بين أديس أبابا ومصوع في مارس/آذار 1990، وفي مايو/أيار 1991 تمكنت الجبهة من محاصرة عصب، وأغرقت سبع سفن إثيوبية.
وقد تمكنت القوات الإثيوبية من إنقاذ 14 سفينة تابعة للقوات البحرية الإثيوبية، ونُقلت إلى اليمن الذي سمح لها باستخدام المواني حتى 1993؛ إذ طردها اليمن وأنهى بذلك الوجود العسكري البحري الإثيوبي.
يبدو أنّ اتفاق آبي أحمد مع حكومة إقليم صوماليلاند "أرض الصومال" جاء ليحقق الكثير من الأهداف ضمن السياسة التي تنتهجها إثيوبيا تاريخياً، ناهيك بالطموح الشخصي لرئيس الوزراء الإثيوبي.
وتحققت عدة أهداف أهمها:
أولاً، تحويل إثيوبيا إلى قوة فاعلة في الإقليم، من خلال أداء أدوار وظيفية لصالح النظام العالمي بتأمين خليج عدن وجنوب البحر الأحمر، والاستفادة من الاحتياج الغربي لمن يؤدي ذلك الدور الوظيفي إلى جوار وجود القوات الاجنبية في القواعد العسكرية في جيبوتي.
ثانياً، تسهم في تشظّي وتدمير البيت الصومالي بوصفه أبرز تهديد على الوحدة الإثيوبية، إذ يجمع بطبيعته الإسلامية والعربية تهديداً مباشراً للوجود الإثيوبي الذي يفتقر إلى الوحدة والتجانس الديني والعرقي والثقافي واللغوي.
ثالثاً، توفير دخل اقتصادي ضخم الذي تقدمه لجيبوتي نظير استقبال موانيها الواردات، واستخدامه في تصدير البضائع.
رابعاً، تأسيس قوة بحرية قد يوفر لها مزيداً من القروض والقوة الاقتصادية والسياسية في الإقليم مع الوقت بوصفها قوة واعدة، وقد يكون رافعة لاقتصادها بفتح أسواقها أمام الدول المصنعة مثل تركيا التي أصبحت تمتلك أكثر من 200 شركة في إثيوبيا.
خامساً، العمل كدور وظيفي في تعزيز النفوذ الإماراتي-الإثيوبي المشترك في جنوب البحر العربي، إذ حاولت "مواني دبي" السيطرة على ميناء "بربرة" في أرض الصومال 2018، لكن المشروع لم يرَ النور حتى اليوم. وكذلك في بناء شراكة فرنسية تسهم في بناء أسطول بحري، تمتلك من خلاله نفوذاً متزايداً في شرق إفريقيا بعد تراجع نفوذها في غربة.
مآلات سياسية لهذا الوجود
قد يكون أبرز المآلات هو التهديد المباشر لوحدة الصومال، مما يحفز بقية الأقاليم الصومالية على الانفصال، وهذا قد يفتح باب تجدد الحرب الأهلية في الصومال مرة أخرى؛ إذ يحقق السياسة الخارجية لإثيوبيا في تفتيت الصومال وجعله هشّاً.
وتشير تقديرات إلى احتمالية تفجر الصراع مع حركة الشباب المجاهدين مرة أخرى، إذ ستكون قرارات إعادة تسليح الحكومة الصومالية مع ازدياد التدخل الإثيوبي معولاً في تفجر الحرب داخل الصومال، بما فيها عودة الهجمات المسلحة من الإسلاميين.
وتتعامل مصر مع هذا الاتفاق على أنّه يمثّل تهديداً، باعتبار أنّ وجود دولة تهدد أمنها القومي على مجالها الطبيعي في البحر الأحمر هو تهديد مباشر للمصالح المصرية.
قد يسهم الوجود الإثيوبي في تعزيز الدور الإماراتي الاستحواذي على الجزر اليمنية وسواحل اليمن الجنوبية، وفي حالة اكتساب إثيوبيا نفوذاً وقوة بحرية فهو تهديد لليمن من منظور المكاسب والخسائر.
وقد أدى الوجود الهش لليمن والصومال لأن يكون جنوب البحر الأحمر ساحة لانتشار القوى العالمية، ووجود قوة إثيوبية قد يعيد أزمات تاريخية من عهود التدخل الإثيوبي في اليمن.
في المقابل قد يكون هناك كثير من الفرص لتركيا للعب دور أكبر في منطقة القرن الإفريقي، بالتوسط بين الطرفين، وزيادة النفوذ الاقتصادي والسياسي في ذلك النطاق.
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.


















