أحد الجنود متحصناً في خندقه على الأراضي الأوكرانية  (Andriy Dubchak/AP)
تابعنا

من المقرر أن يسافر الرئيس رجب طيب أردوغان إلى كييف أوائل شهر فبراير/شباط القادم للتباحث مع نظيره الأوكراني حول كيفية نزع فتيل الأزمة مع روسيا.

الرئيس أردوغان دعا كذلك نظيرَيه الأوكراني فولوديمير زينيليسكي والروسي فلاديمير بوتين للقدوم إلى تركيا من أجل مناقشة كيفية تحقيق الهدف نفسه ضمن تصور شامل لحلّ المشاكل بين البلدين. الاقتراح الذي تبدو كييف منفتحة تجاهه بينما لم تغلق موسكو الباب أمامه.

يمكن، بل يجب النظر إلى الجهود التركية لنزع فتيل الأزمة الروسية-الأوكرانية ضمن سياقين أحدهما منهجي أو استراتيجي يتعلق بمكانة تركيا في الإقليم والعالم بشكل عام، والآخر مرحلي أو تفصيلي يتعلق بعلاقات تركيا الثنائية الجيدة مع الطرفين كون تركيا واحدة من الدول القليلة جداً في أوروبا والعالم التي تمتلك علاقات ومصالح راسخة مع الطرفين، ما يمكّنها نظرياً من التدخل والوساطة، كما هو الحال في آسيا الوسطى وأفغانستان وقضايا وملفات دولية أخرى.

تركيا الوسيط المقبول بين الطرفين

منهجياً واستراتيجياً، تُعتبر تركيا من الدول الناهضة في العالم وعلى كل المستويات السياسية والدبلوماسية والاقتصادية والاجتماعية، ومن المنطقي أن يكون لها صوت مسموع في حلّ الأزمات الدولية خاصة مع امتلاكها رؤية متكاملة لتلك الأزمات وطرق حلّها، تتضمن تحديداً بذل جهد جماعي منسّق وإصلاح منظومة الأمم المتحدة والمؤسسات الدولية ذات الصلة، دون أن يعني هذا الانتظار إلى حين إنجاز ذلك، وإنما التحرّك ضمن الواقع الحالي بما استطاعت أنقرة إليه سبيلاً لتحقيق السلم والاستقرار في المنطقة والعالم.

منهجياً أيضاً، يجب الانتباه كذلك إلى أن الجهود التركية سواء في السياق الروسي الأوكراني أو الأفغاني والفلسطيني والسوري والليبي والخليجي وحتى الأذري-الأرمني قائمة أساساً على مبدأ احترام القوانين والمواثيق الدولية، كما على قاعدة رابح-رابح ودون أي ذهنية استعمارية وبطرق سلمية، إضافة إلى قطيعة مع الجشع الغربي تجاه النفط ومصادر الطاقة الأخرى، والغربي والشرقي "الروسي" فيما يخص تأجيج النزعات لتصدير الأسلحة والمعدات العسكرية.

أما في التفاصيل وفيما يخصّ السياق الروسي-الأوكراني الثنائي فإن تركيا، وضمن دول قليلة جداً في الإقليم والعالم، تتمتع بعلاقات قوية وراسخة مع البلدين، ودائماً وفق المعطيات والقواعد الصلبة سابقة الذكر، وبناء عليه أيضاً تبدو تركيا مؤهلة للعب دور مهم ومركزي في نزع فتيل الأزمة.

بالنسبة للعلاقات مع روسيا فهي قائمة على المصالح المشتركة خاصة التجارية والاقتصادية، والتدخل والتنسيق قدر المستطاع لحل النزاعات والأزمات الإقليمية والدولية مع احتفاظ تركيا بمبادئها ورؤاها ووجهات نظرها ومصالحها المتطابقة مع مصالح أصدقائها وجيرانها، والسعي قدر الإمكان لتنظيم الخلافات أو النقاش المباشر لتحجيمها مع الانتباه إلى حجم تبادل تجاري سنوي يصل إلى نحو 30 مليار دولار مع إرادة مشتركة لرفعه إلى 100 مليار سنوياً ما يعطي العلاقة بالتأكيد قاعدة صلبة وراسخة جداً.

أمر مماثل نجده مع أوكرانيا، ورغم أن حجم التبادل التجاري السنوي أقل من 5 مليارات دولار تقريباً، مع إرادة مشتركة لمضاعفته ورفعه إلى 10 مليارات في المستقبل، إلا أن العلاقات السياسية والدبلوماسية والاقتصادية راسخة أيضاً خاصة مع وجود قاعدة توافق سياسي أكبر، ودعم تركي لسيادة أوكرانيا ووحدة أراضيها، كما هو حاضر مثلاً في شبه جزيرة القرم التي تمتلك تركيا حضوراً تاريخياً فيها ومسؤولية تجاه أشقائها المسلمين التتار هناك.

العلاقات التركية-الأوكرانية انتقلت إلى فضاء أرحب مع تصدير أنقرة أسلحة وتقنيات دفاعية إلى كييف والموافقة على إقامة مصنع كبير لتصنيع طائرات "بيرقدار" المُسيّرة ذائعة الصيت على أراضيها.

في مجال ذي صلة تجدر الإشارة إلى أن الخلافات التركية-الروسية تجاه أوكرانيا والقرم وسوريا وليبيا أو حتى تصدير أسلحة دفاعية إلى كييف، لم تؤثر على العلاقات التي استمرت وفق أولوية التوافق والمصالح المتبادلة والانفتاح على نقاش ملفات الخلافات الأخرى.

عضوية تركيا في الناتو تمنحها ميزة للوساطة

إضافة إلى ما سبق كله، فإن عضوية تركيا في حلف الناتو تعطيها أيضاً ميزة إضافية للتدخل والوساطة وبذل جهود صادقة ونزيهة لنزع فتيل الأزمة خاصة أن ثمة بُعد آخر دولي غير ثنائي فيها يتعلق بعلاقات روسيا الباردة مع الغرب وحلف الناتو رغم الحفاظ على حوارات وقنوات مفتوحة بينهما.

قبل ذلك وبعده ثمة سبب إضافي يستوجب الحضور التركي في الأزمة الروسية الأوكرانية، ويتمثّل بتعمّد رفع موسكو سقف مطالبها الأمنية من حلف الناتو لتشمل تحجيم انتشار وحضور الحلف في بلغاريا ورومانيا وحتى في جمهوريات بحر البلطيق وأوكرانيا، وسعيها إلى اتفاق يالطا ثانٍ بعد الأول الذي رسم معالم النفوذ بعد الحرب العالمية الثانية، فبراير/شباط 1945، وسواء كنا بصدد يالطا جديد أو أي تفاهم آخر لترسيم حدود النفوذ والقوى والمصالح في المنطقة، فلا بد أن تكون تركيا حاضرة ليس فقط دفاعاً عن مصالحها وإنما كونها باتت قوة إقليمية وعالمية لا يمكن تجاهلها أو استثناؤها من أي تفاهمات أو اتفاقيات أممية جديدة.

بتفصيل أكثر وبناء على المعطيات السابقة، يسعى الرئيس أردوغان عبر جهود الوساطة أساساً إلى كسر الحاجز النفسي وفتح قنوات حوار بين الطرفين ولو بشكل غير مباشر في مرحلة أولى. وهنا أيضاً ثمة قيمة مضافة للجهود التركية تتمثل بعلاقات الرئيس أردوغان الشخصية والقوية والثقة والمصداقية التي يتمتع بها لدى نظيرَيه الروسي والأوكراني، مع الانتباه إلى قناعة مفادها عدم واقعية احتمال غزو روسيا لأوكرانيا، إضافة إلى أن هذه الأخيرة دولة كبير ومن الصعوبة بمكان تصور غزوها واحتلالها وفق التعبير الحرفي للرئيس أردوغان.

وبالتالي ومن هذه الزاوية تحديداً سيكون الهمّ الأساس للوساطة التركية إشاعة أجواء التهدئة وتقليل حدة الاحتكاك والتشنّج بين الطرفين قدر الإمكان. وفي السياق الجماعي وكون تركيا دولة مهمة بحلف الناتو بل وصاحبة ثاني أكبر جيش فيه، فهذا يعطيها ميزة أخرى وقيمة مضافة، ويساعدها على لعب دور إيجابي والتأثير أيضاً في الجانب المتعلق بالعلاقة بين روسيا والحلف بشكل عام، خاصة أن ثمة دولاً أوروبية مثل ألمانيا تتبنى سياسة هادئة وموضوعية شبيهة أو قريبة بالمقاربة التركية تجاه روسيا، وكيفية حلّ الخلافات والتباينات معها بما في ذلك الأزمة الحالية مع أوكرانيا.

عموماً في الأخير، وبتركيز واختصار ثمة فرصة معقولة لنجاح الوساطة التركية وتنفيس أجواء الاحتقان والتوتر بين روسيا وأوكرانيا، وخلق بيئة مؤاتية أكثر أمام التفاوض والحلّ السلمي للأزمة. وفي كل الأحوال فتركيا ستبذل كل ما في وسعها لتحقيق الهدف المنشود ولو كانت القصة ثنائية فقط بين الجانبين لكان النجاح مضموناً أو على الأقل عالي الاحتمال، لكنّ تعدد جوانب الأزمة وحضور أبعاد دولية أمريكية وأوروبية فيها يُعقّد المسألة نسبياً لكن دون أن يعني هذا اليأس أو التخلي عن الوساطة والجهود، ودائماً وفق قاعدة أن ما لا يُدرك كلّه لا يُترك جلّه.

جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.


TRT عربي
الأكثر تداولاً