يُدفعُ الفلسطينيون ممن أفزَعتهم حمم القصف والنسفِ في مدينة غزة، للخروج قسراً من بيوتهم وخيامهم بلا عودة، يَهيمون في شوارعها الغربية، في حين يأمرهم الاحتلالُ عبر طائراته المُسيّرة بالنزوح جنوب القطاع، وبينما يحظى البعضُ بدقائقَ إضافيةٍ لحمل لوازمه الأساسية، لا تستطيع الأغلبية فعل ذلك، بينما يشترك جميعهم في غياب الوجهة التي يسلكونها، هرباً من موتٍ مُحقّق توعّدت به حكومة نتنياهو بعد إعلانها السيطرة على المدينة بالكامل.
في حيّ أبو اسكندر، شمالي مدينة غزة، حيث يتواصل القصف على مدار اليوم والليلة، اختارت هبة نطط (41 عاماً) النزوح برفقة والدتها، بعدما كررت طائرات الكواد كابتر تهديدها المسجّل لسكان الحي بالإخلاء تمهيداً لقصفه.
تقول هبة لـTRT عربي: "جميعنا يعرف أنه نزوحٌ بلا رجعة، إذ يتعمد الاحتلال إعدام الأحياء التي يدخلها بالكامل عبر النسف بالروبوتات، لتصبح غير صالحة للعيش أبداً"، مؤكدةً أنه من غير المعقول أن تُغامر بحياة والدتها وأطفال إخوانها في انتظار اللحظة الأخيرة.
وفي سياق ردّها عما إذا كان البقاء في بيتها خياراً ممكناً تجيب بنبرةٍ متوترة: "الخطر يحدّق بنا من كلّ الجهات، وسيشتدّ بعد قليل، ومن يقرر البقاء في دائرة النار فسيموت بلا شكّ، لأنّ الاحتلال لن يسمح لأحدٍ بالتحرّك، هذا ما يضطرني لترك بيتي وأنا أنظر إليه نظرة مودّع، وأبكي كل ذكرياته للمرة الأخيرة، لكنها الفرصة الوحيدة التي تُمكّننا من إخراج بعض أغراضنا التي لن نستطيع تعويضها إن تأخرنا في البقاء يوماً آخر".
تخرج هبة إلى بيت أقاربها في مخيم الشاطئ غرب المدينة، على أمل ألا تُجبر مع أهالي القطاع للنزوح الجماعي جنوب القطاع، راجيةً بالقول "نؤجل قرار الخروج من غزة، في انتظار حدوث معجزة إلهية، بعدما عدِمنا كل أسباب النصرة الحقيقية التي نستحقها".
أهالينا أمانة
وعما إذا كان قرار النزوح للجنوب مستعصياً عليه، أجاب المصور عبد الحكيم أبو رياش "38 عاماً": "فقدنا كل ما نملك بعد تدمير بيوتنا في مدينة بيت لاهيا واحتلالها بالكامل، ما اضطرني للسكن في خيمة على شاطئ مدينة غزة، مع والدتي وإخواني الذين أتولى رعايتهم، هذا الأمر دفعني لتأمين حياتهم بعيداً عن الخطر الذي يحيط بهم، إذ لا تَقيهم الخيام نيران الزوارق الحربية ولا رصاص المسيرات".
بعد نزوحه الأول، مجدّداً قرّر عبد الحكيم نقل خيمته إلى مدينة دير البلح وسط القطاع، مع عائلته المكونة من 13 فرداً، قبل أن يشتدّ زحام العائلات على شارع البحر الواصل بين شمال القطاع وجنوبه على حد قوله.
ويضيف أبو رياش في حديثه مع TRT عربي أن "تكلفة المواصلات والنقل ستزداد، وترتفع أجرة الأماكن الفارغة إلى سعر خياليّ مع نزوح الأكثرية، وليس لدينا الوقت الكافي لندفع حياتنا وكل مالنا لأننا تأخرنا في النزوح، هكذا علّمتني تجربة النزوح الأولى"، مضيفاً أن النزوح مرارة وتعب ومشقة، لكنه اختار المحافظة على سلامة الأهل قدر الإمكان، إذ أصبح تأمينهم هاجساً لديه بعد فقدان والده قبل عام.
أما أبو طارق "55 عاماً" نازح من حيّ الزيتون جنوبي غزة، فقد قرر العودة إلى خيمته المنصوبة في شارع عمر المختار قبالة مكبٍّ للنفايات وسط مدينة غزة، بعدما لم يعثر على موطئ قدمٍ ليتخفف من أمتعته وحقائب عائلته، التي نقلَها مؤخراً على عربة يجرّها حيوان، قاصداً بنزوحه مواصي خان يونس، حيث المنطقة الإنسانية التي يدّعيها الاحتلال جنوب القطاع.
ويرى أبو طارق أنّ عودته تمثّل إشارة لهُ على ضرورة البقاء في مدينة غزة، مضيفاً "لا يستطيع الاحتلال سلب إرادة مليون مواطن قرروا البقاء في غزة، وإن اختلفوا في دوافعهم، وختم بالنفي "لن أخرج منها مرةً أخرى".
خديعة الخرائط
في حديثه لموقع TRT، يوضح تيسير محسن الناطق باسم مكتب الإعلام الحكومي في غزة أن الاحتلال يضلل المواطنين عبر خريطة منشورة يدّعي أنها لمناطق آمنة يبلغ مساحتها 7 كم مربع، وقد تبيّن بعد التحقق استحالة أن تستوعب هذه المناطق قرابة مليون و200 ألف نسمة، يسكنون الآن غرب ووسط مدينة غزة.
ويشير إلى أن "هناك 16 منطقة من أصل 38 تُصنّف بأنها حمراء وخطيرة، ومناطق أخرى مزدحمة بالسكان، وأخرى عبارة عن كثبان رملية لا تصلح للعيش الآدمي، كما تتضمن هذه المناطق أراضي خاصة لمواطنين لن يُسمح للنازحين بالإقامة فيها، ومنطقة لتجميع القمامة".
ويكمل "هذا النزوح مختلف عما سبق، إذ يحتلّ الجيش الإسرائيلي محافظة رفح بالكامل، كما يسيطر على شرق ووسط محافظة خان يونس، ولم يتبقَّ لمواطني الجنوب والوسط مناطق ليذهبوا إليها، ثم يُطلب من أهل غزة الخروج للمناطق نفسها".
وبحسب ما يؤكده محسن فإن إسرائيل تسعى جدّياً لتحويل هذه المساحة إلى سجن يكتظ فيه 2 مليون و350 ألف نسمة، هم إجمالي سكان القطاع، من دون أن توفر لهم ما يلزم من خدمات معيشية ومساكن ومياه صالحة للشرب، خصوصاً وهي تتحكم بما يدخل من شاحنات إغاثية عبر المعابر التي تسيطر عليها بالكامل".
يتراوح عدد العائلات التي نزحت إلى جنوب القطاع منذ بداية العملية، بين 10-15 ألف عائلة حتى كتابة هذا التقرير، وفق إحصائية غير منشورة للإعلام الحكومي، جزء من هذه العائلات استهدفت بمجرد وصولها إلى الجنوب، وأخرى عادت بعد عجزها عن إيجاد مساحات لنصب خيامها.
أما الأكثرية فقد قررت النزوح من كل جهات المدينة إلى غربها، حيث تُقام مخيمات عشوائية ينضمّ إليها النازحون بشكلٍ يوميّ، في محاولة لإطالة عمر المدينة، بالبقاء فيها أطول فترةٍ ممكنة، رغم أن المواطنين يُدركون تبعات صمودهم، ويدفعون حياتهم ثمناً مباشراً لذلك، لكنهم وفيما يُسمع من أحاديثهم، يواسون أنفسهم برحمة الموت مع الجماعة.