حين يهتز اليقين.. كيف خدع التقدم التكنولوجي وغزارة البيانات الاستخبارات الإسرائيلية؟
الحرب على غزة
7 دقيقة قراءة
حين يهتز اليقين.. كيف خدع التقدم التكنولوجي وغزارة البيانات الاستخبارات الإسرائيلية؟يتطرق هذا التقرير إلى قراءة في التحوّلات الجوهرية التي أحدثتها عقيدة "المعارك بين الحروب" ببنية الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية (أمان) ودورها وطريقة عملها، وفق آراء وتحليلات الكاتب آساف هيلر في فصل بكتاب تقييمي للسابع من أكتوبر.
حماس أعلنت عملية طوفان الأقصى ضد المواقع الإسرائيلية في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 / Reuters
منذ 2 ساعات

يركّز المقال على أحد فصول كتاب "الاستخبارات والسابع من أكتوبر"، الذي خرج كثمرة تعاون بين مركز تراث الاستخبارات الإسرائيلي ومجلة جيش الاحتلال (معراخوت)، وشارك في تأليفه عدد من الضباط الحاليين والسابقين في الجيش والأجهزة الأمنية، لا سيما من شعبة الاستخبارات العسكرية (أمان). 

وبينما يتناول كل فصل من فصول الكتاب جانباً محدداً من إخفاقات ما قبل عملية طوفان الأقصى، متعرضاً للأبعاد التنظيمية والثقافية والسياسية التي شكلت سياق الأداء الأمني آنذاك، يرتكز هذا التقرير على تفصيل وعرض فصل “الطريق إلى الإخفاق الاستخباري” الذي كتبه هيلر.

مَن آساف هيلر؟ عقيد احتياط في جيش الاحتلال ومدير أبحاث مركز ألروم لدراسات السياسات والاستراتيجيات الجوية والفضائية في جامعة تل أبيب، كما أنه باحث سابق في سلاح الجو وشعبة الاستخبارات، وحاصل على دكتوراه في الفلسفة.

ويرى هيلر في الفصل المذكور أن “إخفاق 7 أكتوبر” لم يُقرأ على أنه مجرد نقص معلومات، بل نتج عن تراكم تحولات بنيوية ابتداءً من تآكل الاحتراف البحثي والثغرات المنهجية في التقدير، مروراً بضعف الفهم الثقافي وتسييس القرار، وصولاً إلى تبنّي حلول تقنية عاقت الأساليب التفسيرية التقليدية التي تراكمت منذ حرب لبنان الثانية وتفاقمت خلال العقد الأخير.

"المعارك بين الحروب"

يجادل هيلر بأن البيئة التي عمل بها جيش الاحتلال الإسرائيلي شهدت تغيرات وتحوّلات ملحوظة خلال العقدين الماضيين، تراجع فيها التهديد التقليدي أمام بروز "جيوش تنظيمات مسلحة" في لبنان وغزة، فيما تقدّم البرنامج الإيراني النووي وشبكة المجموعات المسلحة المرتبطة بها.

وبناء على ذلك تعاظمت قدرات هذه التنظيمات النارية من حيث الحجم والمدى والدقّة، ما دفع إسرائيل إلى إعادة النظر في فاعلية العمليات البرية التقليدية نظراً إلى تكلفتها البشرية والسياسية واللوجستية.

ويضيف أن جيش الاحتلال استثمر في تطور التقنيات العسكرية والمدنية المصغّرة والرقمنة لتعزيز ضرباته الدقيقة وجمع المعلومات بسرعة أعلى، وإدماج المعلومات والربط بين الأنظمة، ونشر قدرات متقدمة إلى الوحدات القتالية. 

وبناء على ذلك صاغ جيش الاحتلال الإسرائيلي تصورات عملياتية جديدة ترتكز على "الإنهاك السريع"  عبر ضرب ممتلكات "العدوّ" بكثافة جوية منذ بداية الصراع، بدلاً من الاعتماد الكبير على المناورة البرية. 

وفي السابق، كانت النظرة السائدة في جيش الاحتلال الإسرائيلي أن الانتصار على العدوّ يتحقق من خلال مناورة برية إلى عمق أراضيه (كما في حروب سيناء، 1967، و1973).

لاحقاً، وكما يشير هيلر، وفي بداية الألفية نشأت نظرية مفادها أن الانتصار يتحقق من خلال فهم نقاط ضعف العدوّ كنظام، وتفكيكه.

أما النهج الذي جاءت به عقيدة الإنهاك السريع والقتال الصناعي فقد افترض أن الانتصار يكون عبر ضرب أكبر عدد ممكن من الأهداف العسكرية بسرعة كبيرة.

دعمت شعبة الاستخبارات هذا المنحى بآليات تحديد أهداف دقيقة على نطاق واسع، فيما طوَّر سلاح الجو قدرة تنفيذية، موازياً لذلك برز مفهوم "الإدماج العملياتي"، وبموجبه جرى تحويل رصد التهديدات التي تواكب القوات البرية إلى أهداف تهاجم بسرعة من الجو عملياً وإدماج استخبارات دقيقة مع نيران جوية متكررة.

ويشدد هيلر على أن هذه المفاهيم جاءت ضمن إطار أوسع أُطلق عليه "الحرب الصناعية/القتال الصناعي"، فقد أصبحت السرعة والدقة والآلية عناصر محورية، فتوسّعت قدرة جمع البيانات والتحليل الآلي مع نقل أجزاء من وظائف القادة والمقاتلين إلى "قادة أنظمة" وسيطرت أدوات سيبرانية مُؤتْمتة على مسار اتخاذ القرار، فيما باتت محدودية المعالجة البشرية عنق زجاجة.

أخيراً، بلورت إسرائيل منذ 2013 عقيدة "المعارك بين الحروب (مابام)" لضرب بناء قوة خصومها، ابتداءً من حزب الله ثم دائرة النفوذ الإيراني، باستخدام عمليات متكررة ومؤثرة تبقى دون عتبة الحرب الشاملة.

الجيش في ظل المابام

ووفقاً لفصل “الطريق إلى الإخفاق الاستخباري”، فقد أدّت تطبيقات عقيدة "المعارك بين الحروب" (مابام) إلى تغييرات جوهرية في بنية التفكير والسلوك داخل جيش الاحتلال الإسرائيلي، تمثلت في التالي:  

أولاً: الاعتماد المتكرر على عمليات استباقية مدعومة بصورة استخباراتية مفصّلة خلق لدى قيادة الاحتلال شعوراً متزايداً باليقين والقدرة على التحكم في "الصورة الكاملة"، ما قلّل حسّ الحذر تجاه المفاجآت ومنع عادة العمل في ظلّ اللا يقين.

ثانياً: طغت ثقافة "القيادة التفصيلية"، فقد أصبحت قرارات العمليات تُدبّر من مستويات عليا بمواصفات تفصيلية دقيقة، ما حصر دور ضباط الصف والمستويات المتوسطة في إعداد خطط للتصديق عليها وقلّص إحساسهم بالمسؤولية والقدرة على المبادرة الميدانية. هذا النمط أعاد إنتاج بيروقراطية تشغيلية قُمعت بها المبادرة من الأسفل على غرار خبرات سابقة.

ثالثاً: استنزفت إدارة المابام وقت وطاقات القيادات العليا واحتكرت مساحات النقاش الاستراتيجي، فحَوّلت النجاح التكتيكي المتكرر إلى ميل نحو الحلول الحركية والفيزيائية، وولّدت اعتقاداً بقدرة الردع الدائمة التي تقلّل من شأن مبادرات العدو المحتملة.

 النتيجة المنطقية أن اليقين الاستخباراتي المفرط قد أخفى مفارقة استراتيجية: كلما نجحنا أكثر، اضطرّ الخصم إلى التكيّف بطرق تقوّض نمط نجاحاتنا.

"عبادة التكنولوجيا"

أدى الانحياز التكنولوجي لدى جيش الاحتلال الإسرائيلي خلال العقد الأخير إلى تحول عميق في الثقافة العسكرية وفقاً لتحليل هيلر، الذي يؤكد أنه بدلاً من تحقيق التوازن بين رؤية مفهومية بعيدة المدى ورؤية براغماتية للسنوات القريبة، هيمنت رواية "العبادة للتكنولوجيا" التي بالغت في قدرة حلول معلوماتية لم تكتمل بعد على تحقيق نتائج ميدانية مؤكدة. 

ويضيف الكاتب-الضابط أن قادة جيش الاحتلال تبنّوا مصطلحات ومشروعات من عالم تقنيات المعلومات مثل "الإنترنت التكتيكي للأشياء" والقرار المدعوم بالذكاء الصناعي قبل نضوجها العملي، ما خلق فجوة بين الطموح والقدرة على التطبيق.

أفرز هذا المناخ شعوراً متزايداً بالثقة والاعتماد على التفوق التكنولوجي تزامناً مع نجاحات تكتيكية مثل عمليات المابام، فتعاظمت ثقة القيادة بقدرتها على الردع وتدمير الأهداف. 

لكن هذه الثقة رافقها تآكل النقد الذاتي، فتحوّلت نقاشات الاستراتيجية إلى صدى لمواقف قيادية موحّدة، وتقلّصت المساحة للنقاش الواقعي حول حدود التكنولوجيا، وفقاً لرأيه.

كما انعكست المشكلة في التدريب، فغلبت تدريبات تنفيذ الخطط القائمة على "تفريغ بنك الأهداف" على تدريبات مواجهة خصم يُجبر على كشف نقاط الضعف، ما قلّل اختبار الفرضيات وولّد شعوراً زائفاً بالكفاءة.

النتيجة: ثقافة عسكرية أكثر اعتماداً على الأساطير التكنولوجية وأقل قدرة على النقد والمرونة الميدانية.

الألغاز والأسرار

يشدد الكتاب على أن تحوّل تركيز شعبة الاستخبارات نحو كشف "الأسرار" (أين تُخبَّأ الصواريخ؟ عدد الأنفاق، مسارات نقل السلاح، وسائل الاتصال) أكثر منه على حل "الألغاز" الاستراتيجية (كيف سيرد خصم ما على ضربة محددة؟ ما الخيارات التي سيتخذها بعد هجوم واسع؟).

فالكشف عن الأسرار يعتمد على جمع نقاط بيانات دقيقة وعمليات منظمة لإنتاج الأهداف، فبرزت وحدات متخصصة في فروع الأهداف، وخلايا إنتاج الأهداف، وحاضنات الأهداف، وعمل بمنهج تشغيلي ثابت يسهّل تحويل المعلومات إلى أعمال نارية.

نتيجة ذلك، يرى الكتاب أن الاستخبارات العسكرية وجهت كفاءات ضباط الاستخبارات نحو مهام الأهداف فطوَّرت قدراتها التشغيلية لكن على حساب مهارات التفكير الفرضي والنقدي الواسع.

في المقابل، فإن الألغاز تتطلب إطاراً تفسيرياً، ووقتاً للنقاش، وإحاطة معرفية وخبرة في التحليل، وهي ليست مسائل تُجاب بمعلومة واحدة لأن العدوّ نفسه قد لا يعرف كيف سيتصرف.

ويشير المقال إلى أن النتيجة التنظيمية والمعرفية لهذا التوجه هي تكثيف جمع المعلومات وزيادة الدقة على مجالات ضيقة، وفي المقابل تآكل في وزن الفهم العميق للظواهر الاستراتيجية وسلوك الخصم المبني على ثقافته وتاريخه. 

بالتالي، يؤدي الانصراف إلى إنتاج الأهداف إلى مخاطرة استراتيجية تتمثل في غياب الشك النقدي والتحليلي اللازمين لفهم الديناميات الأوسع وخيارات العدو المتغيرة.

ثورة تقنيات المعلومات والفضاء السيبراني أدت إلى تراكم هائل من البيانات في "مسابح معلومات" أعيد توجيهها إلى الباحثين عبر أدوات آلية، ما خفض الحاجة إلى المعالجة البشرية التقليدية في وحدات الجمع.

نتيجة ذلك تآكلت المعرفة الميدانية والسياقية التي كانت لدى وحدات الجمع، وتحولت وحدات مثل 8200 و9900 إلى هويات تكنولوجية تسوّق نفسها باعتبارها قوى سيبرانية وفضائية.

إضافة إلى ذلك، أدت الأولوية للتقنية إلى تغيير التركيبة البشرية للشعبة، وجذب استقطاب المبرمجين والمتخصصين التكنولوجيين الموارد والمكافآت، على حساب المخابراتيين التقليديين.

في المحصلة، عزّز التركيز على المعلومة والدقة التكنولوجية قدرة الشعبة على الإجابة عن أسئلة عملية ضيقة، لكنه أضعف قدرتها على إنتاج تقدير استراتيجي عميق وفهم شامل لسلوك العدو وسياقه التاريخي والثقافي.

فيضان المعلومات 

يرى المقال أن تفصيل إخفاقات 7 أكتوبر عبر عدسة الاتجاهات البنيوية يكشف علاقة بين الفشل والتغيرات العميقة في ممارسة الاستخبارات.

ينقل الكتاب عن العميد أميت ساعر، رئيس قسم البحوث في شعبة الاستخبارات في السابع من أكتوبر الذي وصف الفشل بأنه ليس نقصاً بالمعلومات، بل فيضان معلومات وخلل في التقدير، وهذان الطرحان يرتبطان بتحول الشعبة إلى تفضيل كشف "الأسرار" على حلّ "الألغاز". 

فالتركيز على إنتاج أهداف سريعة وبنوك أهداف ومنهجية تشغيلية نجحت تكتيكياً لكنها لم تطوّر قدرات تنظيمية وتحليلية لازمة لالتقاط تحولات استراتيجية داخل حماس.

بالإضافة إلى أن آليات التقدير التي تَكَوَّنت لتعزيز العمليات -سريعة ومنهجية وتنطلق من افتراض أن الصورة العامة مفهومة- لم تكن مناسبة لقراءة تغيّرات سياسية وعقائدية أو لتحليل سيناريوهات معقّدة تستدعي وقتاً ونقاشاً متعدد التخصصات. 

ويشدد على أن المعلومات التفصيلية، مهما كانت دقيقة، يمكن تجاهلها إذا لم تتناسب مع الإطار التفسيري السائد، ما يبيّن وهم الاعتماد على الكم بدل النوع.

ويضيف حتى لو عُولجت معلومات ليلية أسرع، فإن القصور الجوهري يبقى في غياب صورة تحليلية شمولية وقدرة على السؤال النقدي.

فقرب ضباط الاستخبارات من أفق العمليات التكتيكي وتحوّلهم إلى مورد معلومات للقادة جعلهم أقل استقلالية في صياغة تقديرات تتحدى الفرضيات السائدة. 

علاوة على ذلك، غياب ثقافة نقد داخلي حقيقي حال دون مساءلة الفرضيات الأساسية. النتيجة أن أسباب الإخفاق تتجاوز فراغات جمع البيانات، وهي إخفاق في بنية التفكير الاستخباري، وفي أدوار المؤسسات، وفي قدرة الشعبة على تحويل ثروة المعلومات إلى فهم استراتيجي متعمق.

مصدر:TRT Arabi
اكتشف
أجواء إيجابية في شرم الشيخ بعد جولة مفاوضات بين حماس وإسرائيل لبحث آلية انسحاب الاحتلال من غزة
تقرير: إسرائيل اعتقلت أكثر من 20 ألف فلسطيني في الضفة منذ بداية الحرب على غزة
دوران: مأساة غزة وثيقة إدانة للنظام الدولي وتركيا تؤكد التزامها العدالة ودعم فلسطين
عض طبيباً إسرائيلياً.. الاحتلال يُفرج عن جميع النشطاء الإسبان من أسطول الصمود باستثناء واحد
خلال 72 ساعة.. جيش الاحتلال يقتل 106 فلسطينيين بـ143 غارة على غزة
ترمب يُشيد بجهود تركيا ومساعدتها على تحقيق اتفاق بشأن قطاع غزة
"قرار ظالم".. الشيخ عكرمة صبري يتحدث عن منعه من دخول الأقصى للمرة الثالثة
ترمب: حماس توافق على أمور مهمة للغاية وأتوقع اتفاقاً قريباً بشأن غزة
عامان من الإبادة.. الاحتلال يدمر 208 مواقع أثرية وتراثية من معالم غزة الإسلامية والمسيحية
تحت ضغط مظاهرات مؤيدة لفلسطين.. فريق إسرائيلي يتنصل من هويته ويغيّر اسمه الرسمي
القاهرة: بدء محادثات غير مباشرة بين الوفدين الفلسطيني والإسرائيلي
الاحتلال يرحّل 171 ناشطاً من أسطول الصمود وإعلام عبري يكشف عن انتهاكات بحقهم
إصابة فلسطيني بطوباس وسط حملة اعتقالات بالضفة.. ومستوطنون يقطعون عشرات الأشجار برام الله
شهداء بغزة رغم مزاعم وقف القصف.. والأونروا تواصل تقديم المساعدات وسط مطالبات بإجراءات فورية للحماية
إسرائيل تمنع الشيخ عكرمة صبري دخول المسجد الأقصى لمدة ستة أشهر
عامان من الإبادة.. سياسة التجويع الإسرائيلية تحصد أرواح أطفال غزة