يستعرض هذا التقرير فصلاً بعنوان “كيف اختفى التحذير من اندلاع الحرب من مفهوم الأمن الإسرائيلي؟” من كتاب "الاستخبارات والسابع من أكتوبر" الذي أصدره مركز تراث الاستخبارات الإسرائيلي بالتعاون مع مجلة جيش الاحتلال (معراخوت).
شارك في إعداد الكتاب عدد من الضباط الحاليين والسابقين في الجيش وأجهزة الأمن، لا سيما من شعبة الاستخبارات العسكرية (أمان).
يتناول هذا الفصل جانباً محدداً من إخفاقات ما قبل طوفان الأقصى، مستعرضاً الأبعاد التنظيمية والثقافية والسياسية التي شكّلت إطار الأداء الأمني في تلك الفترة.
شارك في كتابة هذا الفصل عوفر غوترمان الذي شغل مناصب متعددة في شعبة الاستخبارات العسكرية (أمان)، منها مساعد الاستخبارات للسكرتير العسكري لرئيس الحكومة، بالإضافة إلى دافيد سيمانتوف، الباحث الكبير في معهد دراسات الأمن القومي (INSS)، وأودي عيران، محاضر رفيع في العلاقات الدولية بجامعة حيفا وزميل بحثي في معهد المنهجية.
يقترح الفصل تصنيفاً ثلاثيّاً لمستويات التحذير: التكتيكي (تحذيرات ظرفية وفورية)، والعملياتي (تحذير يتعلق بقدرات ومنطق منظومات العدو)، والاستراتيجي (تحذير من احتمالات اندلاع حرب أو تحوّل جوهري في سلوك الخصم).
ويشير الفصل إلى أن التحذير الاستراتيجي كان لعقود الفكرة المحورية في الخطاب الاستخباراتي الإسرائيلي، لكنه شهد تراجعاً تدريجياً في العقود الأخيرة حتى تكاد تختفي إشاراته في الخطاب الراهن.
ما قبل حرب أكتوبر
يشير الكتاب إلى أنه في الخمسينيات بدأت إسرائيل تبني مهمة الإنذار العملياتي وسط قدرات استخباراتية محدودة. رغم افتراض أن الدول العربية قد تبادر إلى الحرب، كانت القدرة على كشف استعدادات جيوشها دقيقة ضعيفة، لم تتوفر أجهزة تنصت متقدمة أو استطلاع جوي عميق، والاستخبارات البشرية كانت في بداياتها، كما افتقرت إسرائيل إلى عمق جغرافي لمراقبة تحركات الجيوش العربية.
ويضيف أن العدوان الثلاثي (1956) مثّل نقطة تحوّل، إذ جعلت ترتيبات الانسحاب شبه جزيرة سيناء منطقة مراقبة وإنذار، فدفع رئيس الأركان آنذاك حاييم لاسكوف إلى تعزيز وسائل التجميع، خصوصاً نظم التنصت على اتصالات الطائرات والقدرات الإلكترونية.
وفي هذا السياق أُنشئت لجنة داخل شعبة الاستخبارات العسكرية (أمان) خُصصت لفحص وسائل التجميع ومؤشرات نشوب الحرب ووضع تصور للإنذار التنفيذي.
لكن الكتاب يشير إلى أن هذه الفترة لم تخلُ من إخفاقات، وأبرزها "قضية روتِم" في فبراير/شباط 1960 حين عبرت فرق مصرية إلى عمق سيناء رداً على عملية إسرائيلية دون أن تكتشف أمان تحركاتها أو تدرك بُعد اتحاد مصر وسوريا سياسياً وعملياتياً.
في الستينيات، يشير الكتاب إلى أن إسرائيل ركزت على تطوير قدرات الإنذار، وتحديداً تعزيز استخبارات الإشارات والحرب الإلكترونية، مع إقامة شبكات تبليغ متكاملة ومؤشرات مبكرة، وتعزيز عناصر استخباراتية ميدانية وعقد شراكات خارجية لتغذية منظومة الإنذار.
مع ذلك تغيرت الأولويات عقب تطورات استراتيجية، أهمها مشروع سناتور حول تهديد مفاعل ديمونة دفع إلى تركيز جهود على الإنذار التكتيكي ضد هجمات جوية، وتوسعت وحدة التنصت 515 (لاحقاً 8200) وأنشئ مركز شوفار للإنذار.
بعد حرب 1967 تغيرت طبيعة الساحة، وبرز الاعتماد على قدرات الجيش النظامي لصد هجمات مفاجئة بدلاً من الاعتماد على إنذار مبكر تقليدي.
أدى ذلك وفقاً للكتاب إلى إعادة ترتيب موارد الاستخبارات نحو أدوات تقنية ومعالجات آنية، وتعميق التعاون مع سلاح الجو ووحدات العمليات، مع إضعاف الاهتمام بالتحليل الاستراتيجي الشامل الذي يتطلب وقتاً ومجالاً للتقدير بعيد المدى.
جاء الانهيار الاستخباري الكبير في 6 أكتوبر/تشرين الأول 1973 نتيجة اعتماد تصور خاطئ. افترض التصور أن مصر لن تشن حرباً ما لم تملك تفوّقاً جوياً يتيح لها ضرب العمق الإسرائيلي، وأن سوريا لن تبدأ مواجهة عسكرية بمفردها من دون دعم أو غطاء مصري.
استندت التقديرات والاستخبارات إلى هذه الفرضيات ففشلت في توقع المبادرة المشتركة، مما أتاح لمصر وسوريا تنفيذ هجوم مفاجئ نجح في اختراق توقعات المنظومة الأمنية.
بعد حرب أكتوبر
ويشير الكتاب إلى أن إخفاق الإنذار في حرب أكتوبر أدى إلى إعلاء مهمة التحذير مركزياً داخل شعبة الاستخبارات العسكرية (أمان).
وشملت الإصلاحات توسيع مساحة التشكيك في التقديرات، وإقامة آليات رقابة جديدة (وحدة/قسم رقابة)، وتبنّي نموذج "المؤشرات الدالة على الحرب"، بالإضافة إلى تعزيز قدرات الجمع عبر مشاريع تقنية وميدانية جديدة.
بالإضافة إلى تخصيص وظائف إنذار لوحدة التنصت (التي تغيّر رقمها بعد الحرب إلى 8200)، كما نُظِّمت تدريبات ومحاكاة حربية وزادت الاستثمارات في اللغات والثقافة العربية.
وخشي المحللون بعد اتفاقية السلام مع مصر فقدان مساحة الإنذار في سيناء، فدفعهم ذلك إلى تطوير وسائل جمع مبتكرة (مناطيد وطائرات مسيّرة).
في الثمانينيات، تحوّل "التهديد المرجعي" من مصر إلى سوريا، ويشير الكتاب إلى أن مجتمع الاستخبارات الاسرائيلي ركّز جهود الإنذار على احتمالات مبادرة هجومية سورية.
ويوضح الكتاب أن عقد التسعينيات شهد تراجعاً في تهديد الحرب التقليدية على إسرائيل بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وانحسار تهديد العراق، فيما تصاعدت تهديدات غير التقليدية.
ويضيف أن تقدّم عملية السلام وإبرام اتفاقات السلام خفف احتمالات حرب شاملة، ورغم استمرار الإنذار بالحرب كمهمة للأجهزة، بدأت بوادر ارتباك تظهر حول أهميته كمرتكز للسياسة الأمنية.
وشهدت سنوات الألفية تحوّلاً جوهرياً في دور الاستخبارات الإسرائيلية: من مهمة الإنذار الاستراتيجي التي كانت محوراً منذ عقود، إلى نموذج "الاستخبارات من أجل الفعل" الذي يربط جمع المعلومات مباشرة بالعمليات الميدانية.
عزز ذلك قرار هيئة الأركان في يونيو/حزيران 2003 بتقليل احتمال هجوم سوري مفاجئ كان خطوة محورية على طريق إزاحة "الإنذار" من مركزية التفكير الاستخباراتي.
وتُعَدّ حرب لبنان الثانية (2006) عامل ضغط إضافي لتعزيز هذا التوجه العملياتي، فقد أظهرت الحرب قصور قدرات الإنذار التقليدية وبيّنت فاعلية الاستخبارات العملياتية، فدفعت إلى إنشاء "قسم التفعيل العملياتي" (2007) لمنح أمان دوراً هيكلياً في المبادرة العملياتية، وإنتاج الأهداف، والحروب السرية والإلكترونية.
هذا التوجّه عزز فاعلية التكتيك لكنه أثار أسئلة عن تآكل القدرة على التحليل الاستراتيجي والإنذار البعيد الطموح، وعن توازن الهوية المؤسسية بين فهم الواقع و"تشغيل القوة" في الميدان.
ما قبل طوفان الأقصى
ووفقاً للكتاب، شهد العقد الأخير تحوّلاً جذرياً في موقع الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية (أمان) ودورها داخل منظومة الأمن الإسرائيلي من مؤسسة تركّز على "التحذير من الحرب" وفهم الواقع الاستراتيجي إلى جهاز يضع الاستخبارات العملياتية والتأثير الميداني في صميم هويته.
هذا التوجّه جاء متزامناً مع تبنّي الجيش لمفهوم "المعركة ما بين الحروب (مابام)" الذي صاغه جيش الاحتلال كحالة تشغيلية دون مستوى الحرب تهدف إلى "الإنهاك السريع" وتقويض قدرات "العدو" عبر عمليات متكرّرة ومحددة النطاق، ما أدى -وفقاً للكتاب- إلى رفع إنتاج الاستخبارات التكتيكية، وتسريع وتيرة تزويد القوات بالبيانات، وربط الاستخبارات بأنظمة النيران والقيادة والتحكّم.
تطوّر التقنيات مضافاً إليه دخول أطر التحليل الرقمي أسّس نموذجاً لإنتاج معلومات على مقياس أوسع ما عُرف داخلياً بـ"مصنع الأهداف"، انعكس ذلك في إدماج "التفوق الاستخباراتي" كمفهوم رسمي، يهدف إلى "الامساك الكامل بساحات القتال"، وإنتاج أهداف بمعدلات توازي القدرة النارية للجيش، وإحباط مبادرات العدو عبر دفاع وتحييد وإحباط وتشويش وتوجيه.
بذلك غاب "التحذير من الحرب" التقليدي إلى جانب بروز مهام الاستخبارات كقوة فاعلة في أنشطة هجومية وسيبرانية وسرية.
ووفقاً لمؤلف الكتاب، كان لهذا التحوّل ضريبته إزاحة المهام التقليدية للتحليل الاستراتيجي وإضعاف مركزية "التحذير"، وتآكلت موارد وأولوية البحث والتقدير، وقلّ وزن وحدات البحوث مقارنة بوحدات الجمع والتقنية.
كما تعاظم الاعتماد على أدوات آلية ومنهجيات إنتاج الأهداف قد حدّ من قدرة المؤسسة على بناء صورة تفسر التحولات السياسية والعقائدية لدى "الخصوم".
أخيراً، النموذج العملياتي منح الجيش والقيادة أدوات ميدانية فعّالة، لكنه أضعف آليات الشكّ والتحليل النقدي والقدرة على التحذير البعيد، وهي عناصر ثبتت أهميتها في تجارب تاريخية، ما قاد في النهاية جهاز الاستخبارات العسكرية (أمان) إلى الفشل في التحذير من عملية طوفان الأقصى، والتنبؤ بنيات حركة حماس ومشروعها لضرب جيش الاحتلال الإسرائيلي على حدود قطاع غزة.