آراء
الحرب على غزة
5 دقيقة قراءة
كيف تُبقي مليونَي شخص على حافة المجاعة دون تجاوز المعايير الدولية؟
المقال يكشف، عبر تحليل بيانات 22 شهراً، عن استراتيجية إسرائيلية لإبقاء غزة على حافة المجاعة دون تجاوز المعايير الدولية، لتفادي تبعات قانونية وسياسية واستراتيجية قد تغيّر مسار الصراع.
كيف تُبقي مليونَي شخص على حافة المجاعة دون تجاوز المعايير الدولية؟
البيانات أظهرت نمطًا دوريًا واضحًا: اقتراب من عتبة المجاعة، يليه تدخل دولي حاسم، ثم تحسينات تكتيكية محدودة، يعقبها تدهور جديد، وهكذا دواليك. / Reuters
19 أغسطس 2025

في 29 يوليو/تموز الفائت، أعلن الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش أن غزة على شفا المجاعة، وهو تصريح طرح أسئلة مشروعة: كيف يمكن، بعد 22 شهراً من الموت المتواصل في غزة، ألا يكون القطاع المحاصر قد دخل عميقاً في المجاعة الحقيقية؟ 

وهل نحن أمام نمطٍ مُهندَسٍ لإبقاء أكثر من مليونَي شخص على حافة الجوع، دون تجاوز المعايير الدولية التي تحدد إعلان المجاعة؟

وفق التصنيف المتكامل لمراحل الأمن الغذائي (IPC)، لا تُعلَن "المجاعة" إلا عند تجاوز ثلاثة معايير صارمة: وفاة شخصين من كل 10 آلاف يومياً بسبب الجوع أو سوء التغذية أو الأمراض الناجمة عنه، ومعاناة 20% من الأُسَر من نقص حاد في الغذاء، وإصابة 30% من الأطفال بسوء تغذية حاد.

ورغم أن غوتيريش لا يصرّح عادةً دون الاستناد إلى حقائق وأرقام، فقد أجرينا تحليلاً شاملاً على مدار 22 شهراً شمل مئات التقارير والأخبار الصادرة عن الأمم المتحدة، ومنظمة الصحة العالمية، واليونيسف، وبرنامج الأغذية العالمي، ومكتب تنسيق الشؤون الإنسانية، والتصنيف المتكامل لمراحل الأمن الغذائي (IPC)، ووكالة الأونروا، ومنظمة أطباء بلا حدود، ومحكمة العدل الدولية، ومنظمة إنقاذ الطفولة، وغيرها. كان الهدف الإجابة عن هذه الأسئلة، فتكشفت أمامنا واحدة من أعقد التجارب الموثقة لإدارة عتبات المجاعة في التاريخ الحديث.

البيانات أظهرت نمطاً دورياً واضحاً: اقتراب من عتبة المجاعة، يليه تدخل دولي حاسم، ثم تحسينات تكتيكية محدودة، يعقبها تدهور جديد، وهكذا دواليك.

 هذا النمط يعكس محاولة إسرائيلية دقيقة وجريئة لوضع غزة على جمر الأمعاء الخاوية، مع الحرص على عدم تجاوز المعيار الدولي الذي يستدعي إعلان "المجاعة" رسمياً.

إدارة الجوع

تكشف بيانات امتدت على مدى 22 شهراً عن مستوى عالٍ من الاحترافية الإسرائيلية في تجنّب إعلان المجاعة رسمياً في غزة. فعلى الرغم من تجاوز معيارين من أصل ثلاثة يحددها التصنيف المتكامل لمراحل الأمن الغذائي (IPC) -هما معدل سوء التغذية الحاد الذي وصل في شمال القطاع إلى 31% متجاوزاً العتبة الدولية البالغة 30%، ومعدل انعدام الأمن الغذائي الذي تخطى 96% في بعض المناطق مقارنة بالحدّ المعياري البالغ 20%- فإنّ المعيار الثالث، وهو معدل وفيات شخصين من كل 10 آلاف يومياً، لم يتجاوزه بعد، إذ سجل 1.8 وفاة يومياً، مع وفاة 74 شخصاً جرّاء الجوع منذ بداية العام، منهم 63 في يوليو/تموز وحده.

ترافق ذلك مع ما يمكن وصفه بـ"هندسة دقيقة" لتدفق المساعدات، فمن أصل 490 ألف طن وصلت إلى حدود غزة خلال عام 2025، لم يُوزَّع فعلياً سوى 228 ألف طن، أي بفجوة تتجاوز 53%، كما فُقِدَ أكثر من 32% من المساعدات داخل القطاع.

الأكثر لفتاً للنظر هو الارتباط المباشر بين حجم المساعدات وشدة الضغط الدولي، كما وثقته مئات التقارير الفنية والصحفية. فكل تدخُّل قانوني أو دبلوماسي أو عسكري -مثل إعلان "المجاعة الوشيكة" في مارس/آذار 2024، أو الضغط الأمريكي المباشر في أبريل/نيسان 2024، أو أوامر محكمة العدل الدولية، أو مذكرات المحكمة الجنائية الدولية، أو وقف إطلاق النار الذي رفع المساعدات إلى 95%- أدى إلى تحسينات مؤقتة دامت 6–8 أسابيع، قبل أن تعود مؤشرات الأزمة للتصاعد.

وتشير البيانات إلى نمط متكرر: إغلاق المعابر ومنع المساعدات حتى بلوغ 85–90% من عتبة المجاعة، ثم تنفيذ تحسينات محدودة لامتصاص الضغوط، بالتوازي مع خطوات للتلاعب بالمؤشرات عبر الطعن في منهجيات التقييم، أو حجب البيانات، أو منع فرق التقييم من الوصول إلى مناطق حرجة، قبل العودة تدريجياً إلى تشديد القيود وإبطاء تدفق المساعدات مع تراجع الاهتمام الدولي.

ماذا يعني إعلان "المجاعة" في غزة؟ ولماذا تسعى إسرائيل لمنعه؟

رغم أن المؤشرات في غزة تجاوزت، من حيث الكم والنوع، ما شهدته الصومال عام 2011 وجنوب السودان عام 2017 –خصوصاً في معدل الوصول إلى الغذاء– لم يُعلَن حتى الآن وقوع "المجاعة" في القطاع، بخلاف ما جرى في الحالتين السابقتين.

السبب لا يعود إلى غياب المعطيات، بل إلى مزيج معقد من العوامل: التعقيدات الجيوسياسية، وقدرة الجهة المسيطرة على الأرض على مقاومة الإعلان أو التلاعب ببياناته، ومدى استعداد المجتمع الدولي لتبنّيه.

في الصومال وجنوب السودان كانت الظروف مهيأة، حكومات ضعيفة عاجزة عن مواجهة الضغط الدولي، بل إنّ حكومة الصومال طالبت بالإعلان بنفسها، ولم تكن هناك معادلات جيوسياسية معقدة. 

أما في غزة فالمشهد مغاير، إذ ترفض إسرائيل الإعلان بشكل مبدئي، وتحظى بدعم أمريكي وأوروبي كامل، مدركة أن تبعاته ستكون ثقيلة على مستويات القانون والسياسة والاستراتيجية وحتى الداخل الإسرائيلي.


فعلى المستوى القانوني، إعلان "المجاعة" في غزة سيكون بمثابة اعتراف ضمني بانتهاك المادة 8 من نظام روما الأساسي، التي تجرّم "تعمد تجويع المدنيين كأسلوب من أساليب الحرب". 

كما قد يشكّل دليلاً على انطباق أحد تعريفات الإبادة في اتفاقية 1948، وبالتحديد "فرض ظروف معيشية يُقصد بها التدمير الجسدي لمجموعة ما".

كذلك يفضح عدم التزام إسرائيل المادة 55 من اتفاقية جنيف الرابعة، ويمنح أرضية لتفعيل مبدأ "المسؤولية عن الحماية" (R2P) الذي قد يفتح الباب أمام تدخل دولي، وهو ما تخشاه تل أبيب.

أما سياسياً فالإعلان قد يدفع إسرائيل نحو عزلة دولية حادة، ويُحرِج حلفاءها في الكونغرس الأمريكي، الذي قد يجد نفسه ملزماً مراجعة الدعم العسكري وفق القوانين التي تحظر دعمه للدول العائقة لوصول المساعدات، كما يمنح الاتحاد الأوروبي مبرراً قوياً لفرض عقوبات في ظل الضغوط الداخلية المتزايدة.

كما سيكون الإعلان إقراراً بفشل الاستراتيجية العسكرية دون تكاليف إنسانية هائلة، ويثير تعاطفاً دولياً واسعاً مع غزة، ويضعف الموقف التفاوضي لإسرائيل، ويفتح نقاشاً حول شرعية الحصار كأداة حرب.

وأخيراً على المستوى الداخلي، قد يفاقم الإعلان الانقسامات، خصوصاً بين التيارات الليبرالية، ويهدد استقرار الحكومة الائتلافية الهشة، مع احتمال تصاعد المطالب الدولية بالتعويضات. بالنسبة إلى إسرائيل، إعلان "المجاعة" ليس مجرد توصيف إنساني، بل ورقة ضغط قد تغيّر قواعد اللعبة.

/

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كتّابها، ولا تعبِّر بالضرورة عن TRT عربي.

مصدر:TRT ARABI
اكتشف
من داخل مركز مراقبة دولي بمنطقة صناعية.. واشنطن ترسم ملامح ما بعد الحرب في غزة
شهيدان وجرحى في انتهاكات متواصلة للاحتلال لاتفاق وقف إطلاق النار بقطاع غزة
الاحتلال يصيب طفلاً في الخليل ويعتقل 21 فلسطينياً بينهم قيادي في "حماس" بالضفة
الحية: نواصل البحث عن جثامين الأسرى ووافقنا على تسليم إدارة القطاع للجنة وطنية
استشهاد فلسطيني وإصابة 6 آخرين برصاص جيش الاحتلال في مناطق متفرقة بالضفة الغربية
القضاء الإسرائيلي يرفض تقليص إفادات نتنياهو في محاكمته ومشروع بالكنيست لتجميدها
"رايتس ووتش" تدعو الاتحاد الأوروبي إلى المضي في فرض العقوبات على إسرائيل
إسرائيل تمنع الصحفيين من دخول غزة وتستخدم المساعدات "سلاح حرب" وسط بيئة غير صالحة للحياة
محكمة غزة: إسرائيل ترتكب إبادة جماعية بنظام فصل عنصري.. وعرض فيلم "الدليل" في الجلسة الختامية
جيش الاحتلال يبدأ البحث عن جثث أسراه داخل "الخط الأصفر" في غزة
محامون وصحفيون يقدمون أدلة الجرائم الإسرائيلية لـ"محكمة غزة" في إسطنبول
خليل الحية: لن نعطي الاحتلال ذريعة لاستئناف الحرب.. ونطالب برفع حجم المساعدات
مقتل شخصين في قصف إسرائيلي على بلدتين جنوبي لبنان
برلين.. "مؤسسة هند رجب" تقدّم شكوى جنائية ضد جندي ألماني-إسرائيلي
ترمب يلتقي أمير قطر في أثناء توجّهه إلى آسيا ويشيد بدور الدوحة في تثبيت "اتفاق غزة"
جيش الاحتلال يقر بقصف "النصيرات" رغم وقف النار.. وفريق مصري يدخل غزة للبحث عن جثث إسرائيلية