شارك في إعداد الكتاب عدد من الضباط الحاليين والسابقين في الجيش وأجهزة الأمن، لا سيما من شعبة الاستخبارات العسكرية (أمان).
يتناول هذا الفصل جانباً محدداً من إخفاقات ما قبل طوفان الأقصى، مستعرضاً الأبعاد التنظيمية والثقافية والسياسية التي شكّلت إطار الأداء الأمني في تلك الفترة.
كتب هذا الفصل شارون طال، الضابط السابق في جهاز الأمن العام (الشاباك)، والباحث في معهد أبحاث منهجية الاستخبارات.
وحسب الكتاب، أُسنِدت بعد حرب 1967 مسؤولية الضفة الغربية وقطاع غزة إلى جهاز الأمن العام "الشاباك"، ثم بدّل اتفاق أوسلو و"اتفاق القاهرة/غزة وأريحا أولًا" (1994) الإطار القانوني: أُلغيت الإدارة العسكرية في غزة، ونُقلت صلاحيات إلى السلطة الفلسطينية التي أنشأت شرطة مسلّحة، مع بقاء سيطرةٍ إسرائيلية على نقاط محددة.
ويشير إلى أنّ هذا التحوّل فرض إعادة تنظيم استخباراتي؛ إذ دخلت كوادر من منظمة التحرير كانت سابقاً أهدافاً لـ"أمان" و"الموساد" في المشهد الإداري والأمني، ما وسّع الاحتكاك بين الأجهزة وفرض قواعد عملٍ مشتركة خلُصت إليها ترتيبات انتهت إلى اتفاق "قوس قزح" (يناير/كانون الثاني 1994) بوصفه "الميثاق التأسيسي" الأول للتنسيق.
وحسب الكتاب تقرّر أن لّا تُصنَّف المناطق الفلسطينية "أرض دولة هدف" ما لم تُقم دولة فلسطينية؛ وعند قيام دولة تنتقل الولاية الاستخباراتية الرئيسة إلى "الموساد" أو "أمان" التابع للجيش الإسرائيلي، بما يعيد رسم خريطة الاختصاص بين الأذرع.
ويؤكد الكتاب أنّه بناءً على ذلك بقيت مهمتا الإحباط والتحليل بيد "الشاباك" اعتماداً على خبرته وبُناه الميدانية؛ وبعد موجة العمليات التي تلت “أوسلو” وظهور الأجهزة الأمنية الفلسطينية، وسّع "أمان" اهتمامه بهذه الأجهزة، وشُكّلت لجنة مشتركة (1996-1998) أفضت إلى "الميثاق التأسيسي الثاني".
ويذكر الكتاب أنّ "الميثاق التأسيسي الثاني" نظّم مجالات الجمع والتحليل وتوزيع المعلومات: "الشاباك" يتولّى إحباط العمليات والتخريب السياسي وتحليل بُنى الاستخبارات الفلسطينية، و"أمان" مسؤول عن تحليل الأجهزة الأمنية الفلسطينية، مع مسؤولية إنذارٍ مشتركة، رغم استمرار خلافاتٍ جوهرية حول الحدود الدقيقة للصلاحيات.
كما يوضح الكتاب أنّ توصيات مراقب الدولة عام 1999 دفعت "منتدى رؤساء الأجهزة" لتشكيل لجنةٍ شاملة (ضمّت الموساد) قدّمت عام 2002 خريطةً لمناطق التماس والتخصّص وتوصياتٍ لترسيم الحدود؛ لم يصدَّق عليها نهائياً لكنها أرست تفاهماتٍ مهمة وتزامنت مع تحسّن علاقة "الشاباك" و"أمان" خلال الانتفاضة الثانية، ثم تلتها -حسب الكتاب- لجنة متابعة عام 2004 أُقرّت نتائجها حكومياً في يناير/كانون الثاني 2005 لتصبح الوثيقة المرجعية لعمل مجتمع الاستخبارات.
ويفصّل الكتاب أنّ جوهر الوثيقة يقوم على توزيعٍ متعدّد المستويات للمسؤوليات: "مسؤولية حصرية" لجهةٍ واحدة، و"مسؤولية شاملة" يكون فيها جهازٌ بعينه العنوان الرئيس، و"مسؤولية متوازية/مشتركة" بين جهازين وفق تقسيمٍ مُسبق، إضافةً إلى "مشاركة/دعم" حين يسهم جهازٌ بخدمة صاحب الولاية.
في السياق الفلسطيني، يبيّن الكتاب تطبيق هذا المنطق على تقسيم العمل بين الأجهزة: يتولّى "الشاباك" المسؤولية الرئيسة عن إحباط الهجمات، فيما يساند "أمان" منظومة الإحباط بإنذاراتٍ ومعلوماتٍ استخباراتية.
وفي البحث والتحليل -كما يورد الكتاب- تتقاسم المؤسستان المسؤولية بصورةٍ مشتركة مع تحميل القادة والضباط الميدانيين أعباء تنفيذية ضمن نطاقهم.
أمّا في الإنذار الاستراتيجي المتعلق بنيّات العدو لخوض حربٍ على إسرائيل، فيؤكد الكتاب أنّه اختصاص "أمان" مع التشديد على تعددية المقاربات التحليلية، فيما يتقاسم "الشاباك" و"أمان" الإنذار المرتبط بالهجمات المنطلقة من الضفة الغربية وقطاع غزة.
وفي ما يخص جمع المعلومات، يختص "أمان" بالمعلومات العسكرية، فيما يتولّى "الشاباك" المصادر البشرية (HUMINT/هيومنت)، حسب الكتاب.
ما بعد الانسحاب من غزة
كما يبيّن الكتاب؛ أفرزَ الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة عام 2005 واقعاً مزدوجاً في فلسطين: بقيت المستوطنات والإدارة العسكرية في الضفة الغربية، فيما أصبحت غزة بلا وجود أمني أو مدني إسرائيلي، ما غيّر شكل البيئة الحاكمة للساحة برمّتها.
ويشرح الكتاب أنّ هذا الواقع أعاد طرح سؤال الجهة المخوّلة استخباراتياً بإدارة ملف غزة؛ فمنطقياً بدت مثل “أرض بلد هدف” تميل مسؤوليتها إلى "أمان" و"الموساد"، وهو اتجاه تعزّز -حسب الكتاب- بعد سيطرة حماس على القطاع عام 2006.
مع ذلك، يوضح الكتاب أن القرار استقرّ على إبقاء "الشاباك" في الصدارة لثلاثة اعتبارات رئيسية: تفوّقه النسبي في البيئة الفلسطينية، وبنيته الاستخباراتية الراسخة داخل القطاع، وارتباط غزة الوثيق بالجبهة الداخلية الإسرائيلية؛ وهكذا نشأ وفق الكتاب نموذج هجين نادر يتولّى فيه جهاز أمن داخلي ساحة تُعامَل على أنها "بلد هدف"، ما مهّد لاحقاً لتوتّرات مؤسسية.
تكتيكياً، يعتمد "الشاباك" -كما يوضح الكتاب- على سيطرة ميدانية تُمكّنه من الاعتقال والتحقيق وتوسيع مصادر "الهيومنت" وفهم مسرح العمليات؛ وهي مزايا متاحة في الضفة وداخل الخط الأخضر، لكنها غابت في غزة، فاضطرّ الجهاز إلى تطوير أدوات بديلة تعوّض محدودية الوصول الميداني.
ويُلفت الكتاب إلى أنّ مركز الثقل الأمني انتقل بعد حرب لبنان الثانية (2006) وتقرير فينوغراد، نحو حزب الله وإيران؛ ما دفع "أمان" إلى تركيزٍ أكبر على هاتين الساحتين والاستعداد لحرب ثالثة في لبنان، فيما تراجعت أولوية غزة نسبياً وبقي "الشاباك" اللاعب الاستخباراتيّ المركزيّ فيها.
كما يورد الكتاب أنّ هذا التقسيم أحدث توتّرات بين "الشاباك" والجيش، خصوصاً حول قيمة إنذارات "الشاباك" وكيفية ترجمتها عملياتياً؛ وقد برز ذلك بوضوح في اختطاف جلعاد شاليط (2006)، إذ رأى مراقب الجيش -حسب الكتاب- أن الإنذارات كانت عامة وغير قابلة للتفعيل المسبق.
وتبيّن رواية الكتاب أن آثار الخلافات خفّت خلال جولات القتال الدورية، إذ خصّص "الشاباك" قدراته لبناء بنك أهداف دقيق، وتحديث الصورة الاستخباراتية، ومرافقة القوات عبر ضباط ارتباط، فيما أوقفت "الوحدة 504" التابعة لـ"أمان" نشاطها في غزة عام 2010 ضمن إعادة هيكلة، لتغدو "هيومنت" غزة -وفق الكتاب- حكراً على "الشاباك".
في مواجهة المقاومة
حسب الكتاب، مثّلت حرب 2014 محطةً حاسمةً في الخلاف بين جهاز الأمن العام (الشاباك) وشعبة الاستخبارات العسكرية (أمان)، إذ كشفت عن فجواتٍ في تبادل المعلومات الحسّاسة، وعن تعتيم متبادل، كما أبرزت إشكالاً مفاهيمياً داخل “الشاباك” حول معنى "إنذار الحرب" وغياب آلية مُلزِمة لفض النزاعات داخل المنظومة الاستخباراتية.
ويُسجّل الكتاب أن تقريرَ مراقب الدولة لعام 2016 رصد قصوراً في تعاون “أمان” و”الشاباك” في ملف أنفاق المقاومة؛ إذ لم تُكثَّف الجهود الاستخباراتية ضد الأنفاق إلا متأخراً (2013)، ما قلّص جودة المعلومات قُبيل الحرب، كما برزت -حسب الكتاب- فجوة كبيرة في التعامل مع "الأنفاق الدفاعية" التي لم تكن ضمن الاختصاص المباشر لـ“الشاباك”، فيما عدَّها الجيش تهديداً حدودياً ميدانياً.
ويروي الكتاب أنّ تلك القطيعة التحليلية تحوّلت إلى نقطة انعطاف؛ ففي 2016 توصّل نداف أرغمان (رئيس “الشاباك” الجديد آنذاك)، وهرتسي هليفي (رئيس “أمان” آنذاك) إلى تفاهماتٍ تنظّم الأدوار: “الشاباك” للإحباط الأمني في فترات الهدوء، والجيش للمسؤولية العامة زمن الحرب. على أن يكون جمع المعلومات العسكرية من اختصاص “أمان”، ومواجهة فصائل المقاومة الفلسطينية من اختصاص “الشاباك”، مع قواعد واضحة -كما يذكر الكتاب- لتقسيم مجالات الجمع والتوزيع وتخصيص الموارد والتنسيق العملياتي.
ومنذ 2014، ولاحقاً مع تسلّم يحيى السنوار قيادة حماس (2017)، يوضح الكتاب أنّ عملية تعاظم القوة تسارعت: هيكلة عسكرية هرمية، وكوادر مدرّبة، وتسليح متنوّع، ووحدات إسناد ضمن خطة بناء قوة ممنهجة؛ ما استدعى ترسيماً أدقّ للمسؤوليات: فرقة غزة لخط التماس ووحدة "النخبة"، وقيادة المنطقة الجنوبية لمنظومة الصواريخ وقوات الاحتياط والقيادة العسكرية.
ويشير الكتاب إلى أنّ هذا النمط مألوف في لبنان وسوريا، حيث الفصل الجغرافي ممكن، لكنه أشد تعقيدًا في غزة لصِغَر المساحة، فاحتاج إلى مراقبة وتحديث مستمرَّين.
ويُبرز الكتاب أن "مصنع الأهداف" الذي قادته وطوّرته أمان -استناداً إلى "ثورة الوصول" (سايبر وذكاء صناعي)- ولّد تدفّقاً ضخماً من معطيات دقيقة عبر مصادر علنية واختراقات سيبرانية؛ ما زاد الاعتماد على استخبارات الإشارة/السايبر، وأضعف وزن التخصّصات الأخرى، وكانت الأشد تضرراً -حسب الكتاب- الاستخباراتُ البشرية (الهيومنت) بفعل العزلة والحصار وصعوبة التجنيد والتشغيل داخل غزة وندرة الاعتقالات والتحقيقات، فتراكمت فجوات جمع، خصوصاً في مشاريع تعاظم القوة لدى المقاومة (الأنفاق والتصنيع الداخلي).
في المقابل، يذكر الكتاب أنّ حماس حسّنت أمنها المضاد وقدراتها الهندسية؛ فكُشف عام 2018 عن جهاز تنصّت إسرائيلي، وأُحبطت عملية خان يونس لوحدة خاصة، ما منح الحركة فهماً أعمق لأساليب العمل الإسرائيلية، وأتاح تشديد الإغلاق الأمني وتقليص نجاعة جمع المعلومات.
ويخلص الكتاب إلى أنّ هذا القصور الميداني لم يُواجَه بإعادة تنظيمٍ شاملة للمنظومة الاستخباراتية تجاه غزة، بل رُهِنت المعالجة بتوسيع قدرات الإشارة/السايبر لردم الهوّة بدل معالجة جذر مشكلة الوصول البشري؛ وبذلك بقيت علاقة “"الشاباك” والجيش أفضل تكتيكياً منها استراتيجياً، وظلّت -حسب الكتاب- رهينة توجيهٍ سياسي يوازن بين الردع وتجنّب تكلفة الحسم.
الطريق إلى طوفان الأقصى
حسب الكتاب، شكّلت حرب سيف القدس في مايو/أيار 2021 محطة مفصلية ميدانياً واستخباراتياً؛ إذ كانت أول مواجهة يُفعَّل فيها على نطاق واسع مشروع "مصنع الأهداف" التابع لمديرية الأهداف في “أمان”، غير أنّ الأثر الردعي الفعلي كان محدوداً قياساً بالرواية الرسمية التي ضخّمت الإنجاز، وهو ما عطّل مراجعاتٍ معمّقة للأخطاء -كما يلاحظ الكتاب.
لاحقاً، يذكر الكتاب أنّ خيار استقرار غزة رُسِّخ عبر تسهيلاتٍ اقتصادية مقابل وقف مسيرات العودة وخفض التصعيد الحدودي؛ وفي ظل غياب إحساسٍ بخطرٍ استراتيجيّ آنيّ، ركّزت إسرائيل على إدارة التهديد اليومي: إحباط توجيه العمليات من غزة إلى الضفة، والحفاظ على التهدئة عبر أدواتٍ اقتصادية.
هذا الاستقرار أتاح، وفق الكتاب، دفع التكامل العملياتي بين الشاباك والجيش إلى مستويات اندماج فعلي؛ غير أن هذا التقارب قلّص تعددية التحليل والنقد التي كانت توفر رقابة متبادلة وترفع جودة التقدير.
ومنذ 2021 ترسّخت -على ما يورد الكتاب- فرضيةٌ موحّدة بأن حماس متمسكة بـ”الوضع القائم أو الستاتيكو” طمعاً في عوائد التهدئة، من دون إخضاع هذه الفرضية لنقاشٍ نقدي جاد رغم كونها حجر الزاوية لفهم نيّات الحركة؛ وقد قاد هذا الإخفاق في القراءة -حسب الكتاب- إلى فشلٍ أمنيٍّ كبير في التنبؤ بعملية «طوفان الأقصى» صباح 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023.